يحكى أن غراباً عمل تجربة، لاستخلاص دروس تساهم في التحكم بوعي الغابة، فأخذ أرنب حديث الولادة، وعزله عن العالم الكبير.
وبدء الغراب يدخل معرفة في عقل الأرانب، منها: الخيار أفضل غذاء، الخيار مفيد للسرعة، يزيد قوة القفز، يفرز هرمونات السعادة، يجعل الأرنب أكثر جاذبية وأناقة ورشاقة....الخ.
عمل احتفالات ومهرجانات ترفيهية ومسرحيات وبرامج تلفزيونية تتخللها فقرات جميلة عن الخيار. إصدار قانون بمعاقبة شديدة لكل من يشكك بالخيار...الخ.
بعد أن بلغ الأرنب سن الرشد، أخذه الغراب إلى مجلس الغابة، ووضع طبقين الأول من الجزر والثاني من الخيار، وطلب من الأرنب أن يختار بحريته. فاختار الخيار، فتعجب الحاضرون، وطلبوا مرة أخرى أن يختار بحريته، فرد الأرنب بصوت الواثق من نفسه: أنا اخترت طبق الخيار بكامل حريتي من دون تأثير.
فابتسم الغراب، مخاطباً مجلس الغابة، قائلاً: «الأرنب يظن أنه اختار طبق الخيار بحريته، لكنه لا يعلم أن من تحكم بتدفق المعرفة إلى عقله، سلب وعيه، وحريته، فاختيار الخيار في الحقيقة هو اختياري وليس اختياره».
فتساءل الحاضرون بالمجلس، ماذا تقصد؟ فأجاب الغراب: «إن من يتحكم بالمعرفة يتحكم بوعي الغابة».
وهذه القصة لتقريب الفهم لما يحدث في المجتمع البشري، فالغراب يمثل صناع وحراس الإيديولوجيات (العقائد الفكرية) التي تتحكم بالوعي وتطبق أجندة تتحكم بالمعرفة، أما الأرنب فيمثل كل أفراد المجتمع، بينما يمثل الخيار أدوات التحكم بصنع ونشر المعرفة وكيفية تدفقها للعقل.
والتحكم بالوعي هو عمل غير أخلاقي، لأنه يسلب حرية الإنسان وعقله، ويعطل حاسته النقدية وقدرته على الإبداع. فيتوهم الإنسان أنه حر، دون أن يدرك أن من يتحكم بوعيه، جعل عقله وعاء فارغا مستهلكا للمعرفة، تسكب فيه المعلومات بالتلقين.
ووعي المجتمع في البلاد العربية، خاضع بشدة تحت سلطة الفكر السياسي وسلطة الفكر الديني، وهاتان السلطتان تحددان ما هو الصواب وما هو الخطأ، ما هو جميل وما هو قبيح...الخ. والنتيجة العقل العربي معطل، يعيش على التلقين والحفظ.
والمجتمع مسلوب الوعي، عاجز عن صنع المعرفة ونقد ذاته، يتوهم أنه الأفضل، ليس له أدنى اهتمام بقراءة وفهم الآخرين، يحجب عينه عن رؤية الحقيقة، يميل إلى التشدد والتعصب، فكلما غاب وعي المجتمع زاد التشدد فيه.
في مثل هذا المجتمع يعيش المفكر والمثقف غربة، وعزلة، وبذلك يفقد المجتمع حيويته في التطور ويضمحل نحو التخلف، من سيئ إلى أسوء.
إذا أردنا أن نعيش العصر ونرى جمال الحياة ونشعر بالسعادة، فأول خطوة هي تحرير الوعي من أي هيمنة أيديولوجية (العقائد الفكرية)، وتأسيس العقل النقدي بإحياء ورعاية حاسة النقد لدى الأجيال.
وعملية التحرير هي أن يبدأ الفرد بتحرير وعيه وعقله، ثم يحاول أن يرعى حاسة النقد لدى أبنائه، وبهذا خلال جيلين أو ثلاثة أجيال، سيتحرر وعي المجتمع، وإذا لم نبدأ بذلك، فسيستمر غياب الوعي لقرون طويلة جداً.
يجب أن نؤمن بأن تأسيس العقل المنطقي، والعقل الفلسفي، والعقل العلمي، وتنمية ملكة النقد هي مسئولية أخلاقية، وتعطيل أي واحد منها هو عمل غير أخلاقي تجاه الإنسانية.
إقرأ أيضا لـ "عباس المغني"العدد 4775 - السبت 03 أكتوبر 2015م الموافق 19 ذي الحجة 1436هـ
جميل جدا
مقال ولا أروع..
سبحان الله
هل ممكن ان تذكرلي مجتمعا واحدا لم يشكل الوعي العام او الثقافة العامة في إطار معين ينفع المغًّرِس؟ من خالف حوكم و زندق في حياته.