العدد 4774 - الجمعة 02 أكتوبر 2015م الموافق 18 ذي الحجة 1436هـ

سيرةُ كتاب: رواية «سنة العصافير» لشكيب أبوسعدة

سنة العصافير
سنة العصافير

ليست مجرد رواية، بل هي ملحمة شعرية تصويرية. حتى لمن لا يعرف جغرافيا منطقة وقائع الرواية، فقد أبدع الروائي الشاعر شكيب أبوسعدة في وصفه. حتى أنني أكاد أجزم أنه تحكم في رصف الكلمات لتتشكل صوراً بليغة بديعة تغني القارئ عن إغماض عينيه لتصور مشاهد الرواية المتتالية التي تدور أحداثها في رحم تكون الثورة السورية الكبرى، متنقلة بين سورية ولبنان بتداخل يظهر عمق العلاقة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية بين البلدين، واصفة حياة أبطال الرواية - أبناء الجبل بالذات - صعوبة الحياة وما آل إليه الناس من ضيم المحتل العثماني الذي أكل الأخضر واليابس حاله كحال أي مستعمر خصوصاً في مراحل سقوطه وزوال جبروته. هي فرحة لم يكن لها أن تكتمل فهاهم الفرنسيون قد اقتسموا المنطقة مع الإنجليزي وكانت سورية ولبنان من نصيبهم. «سنة العصافير» رواية حديثة صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون.

الطبيعة كالنفس البشرية غير المستقرة، حتى وإن عُرفت مراحل رحلاتها السنوية غير المنتهية. هي حانية على الأرض ومن عليها، إلا أنها قاسية عندما تغضب، وفي صراع دائم مع الكائنات الحية وعلى الأخص الإنسان تتغلب عليه حيناً ويغلبها حيناً آخر. وهي الحالة التي تبدأ بها الرواية في فصلها الأول رسائل الثلج «... رغم ان الربيع اَعلن عن نفسه مراراً، الا ان الشتاء هذا العام اَبى ان ينصرف، دون ان يترك في فم هذه القرية الكبيرة نكهة البرد الذي لا يُنسى. ما كاَد نيسان المتأهبُ يخطو خطواته الأولى، حتى كانت غيوم رمادية مريرة تَعبرُ السماء الفضية، كأّنها طلائع هجوم مُرتدّ لجيش مهزوم...» تقع الرواية في أربع وعشرين فصلاً تتداخل الأزمنة بطريقة تجعل الأحداث التي يتوقف عندها القارئ مُخزّنة حاضرة في ذهنه متأهبة للعودة حين ينتقل إليها الكاتب، وانتقاله لأزمان ماضية يتم بطريقة سلِسة، ففي نهاية الفصل الأول وبعد وصف الاستعداد لنجدة الحلال الذي غاص في عاصفة ثلجية لغدر الشتاء المتأخر عن الرحيل، يستنجد شهاب صاحب الحلال بابن أخيه واسمه نجم أحد أبطال الرواية، ويصف كيف تيتم نجم في سنٍّ مبكرة، بنقلةٍ تسرد وفاة أبي نجم قبل عشرين سنة حين خرج لاسترداد دَينٍ، وما كان له أن يطالب به لولا الحاجة والفقر وسوء الحال. خرج أسعد - أبا نجم - من منزله»... لا يحمل ما يعيقه عن الإسراع في المشي، وهمهُ ألا تسبقه الشمس إلى المغيب وهو في الخلاء، بعيدٌ عن قريةٍ يبيتُ فيها، خوفاً من الوحوش والصقيع الليلي، حيث لا يكسو بدنهُ سوى القليل من الثياب الشتوية، ولا يحمل سلاحاً سوى الإيمان... «وصل أسعد، ورغم عسر الحال فقد تم إكرامه وتدبير المبلغ في تفاصيل تظهر كرم أهل الجبل ونخوتهم وفزعتهم لبعضهم البعض حتى في أحلك الظروف»... والله نحن في هذا الجبل مجانين، رغم فقرنا نستدين مرتين، مرة لإكرام الضيف الدائن، ومرة لسداد دينه!... «عاد أسعد لدياره وقد»... غامت نفسه، واعترته حالة غامضة من الكمد، كان يسير كأنه في حلم قاسٍ، والسماء تتبدل من حال إلى حال...» عاد أسعد، إلا أن عودته في برد الشتاء القاسي عرضته للإصابة بالغرغرينا وكان أمام حلَّين إما بتر قدميه أو الموت. ورد على أبوه حين حاول إقناعه بالبتر»... يا أبي!، إن الإنسان مكون من (الكثيف) الذي هو الجسد. ومن (اللطيف) الذي هو الروح التي تسكن الجسد. جزءٌ من جسدي (الكثيف) مصاب، ويقول الحكيم لابد من بتره من أجل حياتي. رغم ذلك لا أريد التخلص من هذا الجزء المصاب، واحتجاز روحي في الجزء المتبقي من جسدي إلا بإرادة الله، إما أن تسكنه كاملاً لأنه بيتها الكثيف، وأما ترحل عنه كاملاً إلى جسدٍ جديد... ربما أمٌ جديدة تنتظرني الآن...».

وينطلق الكاتب شكيب أبوسعدة بنشر فرسان روايته بسرد تفاصيل حياتهم وظروفهم وأخلاقياتهم وعاداتهم، مفاجآت حياتهم الساحرة المحزنة منها والمفرحة على قِلتها. يوسف من ساقهُ القدر ليقتل أحد عملاء الدولة العثمانية دفاعاً عن كرامته ليتحول لثائر يُسجن ويُحكم عليه بالإعدام ولم يشفع له رحيل غازٍ وقدوم آخر، فما أن يخرج من سجنه حتى يعود إليه بمكيدة وافتراء كاذب. ولم يفلت من حبل المشنقة إلا بأعجوبة هربٍ غامضة لم يعرف سرها السجان أبداً. عاد للجبل ليحتمي به وبأهله»... سيره الحثيث، واتساع خطواته، جعلا ظِلّه يتبعه متعباً، ولا يستطيع اللحاق به، وبينما الشمس تترك الضحى مسرعة تجاه الظهيرة، التي لم تدُم طويلاً بسبب تدافع المساء، يبدو أن الظِلّ شد عزمه أخيراً فتجاوز صاحبه، الذي بدأ إيقاع خطواته يتباعد لما أصابه الإنهاك وطول المسير. السويداء على مرمى النظر. بعيدة، وقريبة يسبقه إليها الحنين للأهل والحرية...» وتستمر الحكايات، قصص الحب التي لا تكتمل، وحب الوطن والشوق لحريته. وتنتهي الرواية ببدايات الثورة، فقد بلغ ظلم المستعمر مرحلة اللاعودة «... لابد من أحمق يظن أن بالإمكان - دائماً - قهر إرادة الناس، فيعبث عند فورة البركان...» تنطلق شرارات الثورة السورية الكبرى حاملةً هم وطنٍ واحد، وطنُ الكرامةِ لكل إنسان.

العدد 4774 - الجمعة 02 أكتوبر 2015م الموافق 18 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً