العدد 4774 - الجمعة 02 أكتوبر 2015م الموافق 18 ذي الحجة 1436هـ

كرزكان وجاراتها: القرى الدلمونية على الساحل الغربي

ذكرنا في الحلقة السابقة، أن في الحقبة ما بين 3100 - 2600 ق. م. نشأت مستوطنة صغيرة على ساحل البحرين الغربي بالقرب من قرية كرزكان الحالية. وفي قرابة العام 2050 ق. م.، ظهرت العديد من القرى الدلمونية على امتداد الساحل الغربي ما بين قرية كرزكان ومنطقة أم جدر. وقد زاولت هذه القرى العديد من الأعمال، منها تجارة النحاس، وصيد اللؤلؤ. هذه الصورة للساحل الغربي تعتبر صورة مغايرة لما كانت ترسم عليه في الماضي، ويعزى الفضل في بلورة هذه الصورة الجديدة، للساحل الغربي، لسلسلة دراسات نشرت في العشر السنوات الأخيرة التي تناولت تطور المجتمع الدلموني من خلال دراسة تلال القبور الدلمونية.

يذكر أن «دولة دلمون» في بداية حقبة التأسيس كانت تتكون من مجموعة بسيطة من الأفراد، الذين قاموا بإنشاء مستوطنات صغيرة في البحرين، وهذه المجموعة لم تكن حينها قادرة على تصنيع كل أدواتها ومستلزماتها، فقد اكتفت بتصنيع فخار بسيط خاص بها، وقامت بتعويض النقص عن طريق استيراد الفخار وبضائع أخرى من حضارة أم النار، التي نشأت على سواحل دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان، وحضارة وادي الرافدين (Hojland 1993)، (Laursen 2009، 2011). ومنذ قرابة العام 2300 ق. م. بدأ تطور المجتمع الدلموني الذي حدث على مرحلتين، مرحلة التأسيس، ومرحلة الانتشار، والمرجح، أن كل مرحلة مما سبق تأثرت بحدث معين أدى لحدوثها أو التسريع بمعدل حدوثها، وهما ثورة سرجون الأكدي، وتجارة النحاس (Laursen 2009)، (Hojlund 2007، pp. 123 -127).

سرجون الأكدي

ونشأة الدويلات

في بداية حقبة جمدة نصر (3200 - 2900 ق. م.)، بدأت تحدث تغيرات اجتماعية واقتصادية في الجنوب الرافدي، من أهمها الميل نحو زيادة نسبة خصخصة الأعمال، وإعطاء الجماعات العرقية، التي تتعايش ضمن بلاد سومر، استقلالية أكبر (Steinkeller 1991، 2004). وقد أخذت قوة الجماعات العرقية التي تعيش ضمن سومر أو بالقرب منها تتعاظم، وبدأ بعضها يهاجر ليكون لنفسه دويلة مستقلة، وبدأ بعضها يفكر في السيطرة على سومر. وأشهر الثورات التي قامت ضد سومر هي ثورة سرجون الأكدي (2340 - 2280 ق. م.) الذي استطاع أن يسيطر على سومر وأن يغير من نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي (Heinz 2007).

وتزامناً مع ثورة سرجون الأكدي بدأت دلمون تتأسس في البحرين. وبدأت هذه المجموعة تكبر، بسبب زيادة الوافدين لها؛ مما أدى لتكوين تجمعات أخرى مشابهة. يذكر، أن هذا التشكيل لهذه الجماعة مشابه تماماً للتشكيلات الأخرى التي تكونت في شرق الجزيرة العربية؛ مما يدل على بداية هجرات لجماعات معينة كونت ما يشبه التكوينات القبلية أو الدولة البدائية أي الطور الأول لتكوين الدولة (Hojland 1993). والمرجح، أن ما ساهم في تأسيس هذه التكوينات العرقية وانتشارها في شرق الجزيرة العربية هي ثورة سرجون الأكدي ضد حضارات جنوب الرافدين.

دلمون تستحوذ

على تجارة النحاس

تعتبر أم النار من أولى الدويلات التي نشأت على ساحل الخليج العربي والتي أسست لنفسها ثقافة خاصة بها في الحقبة 2700 ق. م - 2000 ق. م.، والتي تمثلت في طريقة البناء الخاصة بها وبتطوير نوع خاص من الفخار وكذلك تميزت بطريقة بناء قبور معينة (Potts 2005). ومنذ أن تأسست دلمون، نشأت بينها وبين أم النار علاقات تجارية وطيدة وبالخصوص في تجارة النحاس. وبدأت علاقات دلمون التجارية تتوسع، شيئاَ فشيئاَ، ولكن على حساب حضارة أم النار التي بدأت تضعف حتى تلاشت قرابة العام 2000 ق. م. (Laursen 2009).

أما دلمون فقد استحوذت على تجارة النحاس، وفي قرابة العام 2050 ق. م. ظهرت أختام دلمون وأوزان دلمون، وبدأت دلمون تتحول لنسخة مطابقة لما كان عليه الجنوب الرافدي، ليس في الهوية والشكل، وإنما في الموقع التجاري كوسيط ومنطقة «عبور» تجارية. هذه الصورة لم تكن واضحة في حقبة تأسيس دلمون ولكن في طور النضج أصبحت دلمون القوة التجارية الرئيسية في الخليج العربي (Olijdam 2000). وبدأت دلمون بالتوسع فشملت شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا. أما في البحرين فقد توسع الاستيطان وظهرت مدن وقرى دلمونية جديدة، بالإضافة لظهور حقول تلال القبور في الجزء الجنوبي من البحرين.

القرى الدلمونية

على الساحل الغربي

نتيجة للتوسع المطرد الذي بدأ في دلمون قرابة العام 2050 ق. م، نشأت، في البحرين عدد من المدن والمعابد الدلمونية، بالإضافة للعديد من القرى الدلمونية. وبدأت تلال القبور تنتشر بصورة كبيرة في الجزء الجنوبي من البحرين. يذكر، أن هناك قرابة عشرة حقول من تلال القبور، وتقع في سار، والجنبية، وعالي، وتوبلي، وكرزكان والمالچية، ودار كليب، وأم جدر، ومدينة عيسى. وحقول تلال القبور الدلمونية هي الأثر الأكثر بروزاً بين آثار البحرين، بينما تختفي مواطن الاستيطان والتي عثر على عددٍ بسيط منها؛ مما أدى لتكون صورة خاطئة عن دلمون، أنها بلد الأموات لا بلد الحضارة. إلا أن هذه الصورة بدأت تتغير، وبالخصوص خلال السنوات العشر الماضية؛ وذلك نتيجة لدراسات تحليلية معمقة أجريت على تلال القبور الدلمونية.

يذكر أنه في العام 2006 بدأ مشروع لدراسة تلال القبور الدلمونية، ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر دراسات تحليلية جديدة حول نشأت المجتمع الدلموني وتطوره. ففي العام 2007 م أصدر Hojlund دراسة موسعة حول تلال القبور الدلمونية، ومن خلالها أوضح آليات تطور المجتمع الدلموني القديم ومدى تعقد تركيبه. كما أنه حدد مواقع قرى دلمونية افتراضية، يفترض أنها نشأت في الحقبة ما بين 2050 - 1750 ق. م.، وذلك اعتمادًا على معايير معينة، منها طريقة انتشار تلال القبور الدلمونية (Hojlund 2007). وفي ضمن المشروع ذاته، نشر Laursen سلسلة دراسات أكد فيها على النتائج التي توصل لها Hojlund، مضيفاً لها اكتشافات وتحليلات جديدة منها قبر كرزكان الذي تحدثنا عنه في الحلقة السابقة (Laursen 2008، 2009، 2010، 2011، 2013).

كذلك، قام Olijdam بدراسة تحليلية مشابهة، وأعاد تأكيد الاستنتاجات السابقة ذاتها. يذكر أن Olijdam نشر في دراسته خارطة توضح جميع مواقع الاستيطان التي حدثت في حقبة دلمون المبكرة في البحرين، سواء كانت المواقع الافتراضية أو المواقع الفعلية التي عثر فيها على دلائل آثارية تدل عليها (Olijdam 2010). ويلاحظ في هذه الخارطة الأخيرة، كثرة القرى الدلمونية التي نشأت على الساحل الغربي للبحرين، منها، قريتان، في الحد الأدنى، نشأت في شرق قرية كرزكان (انظر الخارطة المرفقة). كذلك، فإن هذه الخارطة تظهر صورة مغايرة للصورة القديمة التي رسمت حول مدن وقرى دلمون والتي تظهر مواقع استيطان قليلة جداً، ومحصورة في الجزء الشمالي فقط من البحرين.

الخلاصة

إن الدراسات الحديثة التي أجريت على تلال القبور الدلمونية أظهرت مدى تعقد المجتمع الدلموني القديم، وأن هناك أحداث ساهمت في تسارع تكوين هذا المجتمع وتطوره. كذلك، فإن تلك الدراسات تؤكد أنه في تلك الحقبة القديمة تكونت العديد من القرى الدلمونية، ليس فقط في شمال البحرين، بل أيضاً على امتداد الساحل الغربي، وجزء من الساحل الشرقي للبحرين. وكان هذا التوسع الأخير نتيجة لسيطرة دلمون على تجارة النحاس. هذه التجارة تحتاج لموانئ لاستيراد النحاس وتصديره، وكذلك تحتاج لمعامل خاصة لإعداد النحاس قبل تصديره، فهل كان الساحل الغربي شبيهاً بالساحل الشمالي من حيث هذا النشاط التجاري؟ وهل كانت هناك معامل للنحاس على الساحل الغربي؟. هذا ما سوف نناقشه في الحلقة القادمة.

العدد 4774 - الجمعة 02 أكتوبر 2015م الموافق 18 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً