حتى أكثر الناس خلقاً ونزاهة وانضباطاً وحرصاً على الاسم والسمعة والمكانة والخشية من الافتضاح يضعف ويفسد ويلتحق بالفاسدين إذا وجد نفسه في بيئة فاسدة ومغرية ومشجعة ومتضامنة ومتواطئة مع الفساد، للمصريين مثل يقول «المال السايب يعلم السرقة» بيد أن البيئة الفاسدة لا تعني السرقة والتعدي على المال العام والتربح غير المشروع من الوظيفة فحسب، وإنما كل أساليب الاحتيال والمراوغة والكذب وتجاوز القانون أو الاستهانة به.
وفي أعقاب الحديث عن الحكومة المصغرة الهادفة الى تقليص النفقات وتقليل عجز الموازنة في ظل انخفاض أسعار النفط وتصاعد الدين العام برزت في الآونة الأخيرة العديد من التقارير بشأن التوزيع غير المتوازن للمال في مؤسسات ودوائر الحكومة، لا يتعلق الأمر برواتب الوزراء والمستشارين والنواب ومن في حكمهم فحسب؛ ولكن بتلك الهيئات واللجان التي نبتت تباعاً على مدى السنوات الماضية، وصارت تستنزف قدراً من المال العام من دون أن تنتج أو تحقق مردوداً للاقتصاد، وكنا نتمنى لو أن هؤلاء الذين تمتعوا بالمداخيل العالية جداً طوال عقود الرخاء النفطي والفوائض المالية قد بادروا بأنفسهم واقترحوا تخفيض مداخيلهم كي يقدموا نموذجاً في الوطنية ومساندة الوطن في محنته المالية بدلاً من تمسكهم بمناصبهم إلى حين موعد التخلص منهم.
إن المعلومات والتقارير كثيرة بشأن الثغرات التي يتسرب منها المال العام كثيرة ومتعددة المصادر، فالإدارة العليا التنفيذية بحسب تقرير مالي جديد تستنزف 45 في المئة من دخل الوزارة بينما هي تشكل 5 أو 10 في المئة من مجموع العاملين، والمستشارون بكافة تخصصاتهم يكلفون ما مقداره 7 ملايين دينار وكذلك الأمر مع رؤساء الهيئات واللجان الذين قد تتعارض أو تتقاطع وظائفهم مع أخرى في قطاعات مماثلة، إذن فالبداية يجب أن تبدأ من تحديد الأولويات، ومن الهيكل الوظيفي الحكومي المترهل، وخصوصاً في رتبه العليا وليس عبر خفض رواتب الموظفين العاديين أو ذوي الرواتب المتوسطة او المتدنية أصلاً.
وقد انتهجت الحكومة سياسة تمكين هذه الفئة بحيث أصبحت الفوارق شاسعة بينها وبين الفئات الاخرى، وقبل بداية الأزمة السياسية في 2011 اقترحت تقارير صندوق البنك الدولي على البحرين اعادة النظر في السياسة الاقتصادية المتبعة وضرورة البدء بتنويع الاقتصاد، وإغلاق صنابير الهدر الكثيرة، ورفع الدعم وقبلها إيجاد حل سياسي شامل يعيد الأمن والاستقرار ويسهم في نمو الاقتصاد، لكن جاءت سنوات الأزمة السياسية واستعصاء الحلول التوافقية، فتسرب الكثير من المال العام إلى جهات كثيرة استفادت مالياً ولم تحقق شيئاً لا للاقتصاد المتراجع ولا للسياسة المأزومة، ويقترح الاقتصادي عبدالجليل خليل البدء بمعالجة الأزمة السياسية، والتشارك معاً لحلها والقيام باجراءات جريئة وإعادة النظر في دعم الغاز المقدم للشركات والذي يصل الى 512 مليون دينار، في حين يشكل دعم اللحوم 57 مليون دينار فقط، ويرى جليل أن من ضمن الخيارات الاستفادة من إيراد الأملاك الحكومية ذات الدخل الكبير بوصفها احد مصادر تنويع الدخل، وكذلك يرى خيار فرض الضرائب على الشركات الاجنبية كحلول مقبلة، في حين يرى جعفر الصايغ رئيس جمعية الاقتصاديين البدء بإحداث التوازن الاقتصادي ويتمثل ذلك في تبني سياسة مالية مناسبة ذات انتاجية عالية، واستخدام افضل للموارد المتاحة ومعالجة اسباب ارتفاع الدين العام واتخاذ ما يلزم لوقف ارتفاعه وعدم التوجه نحو خفض مصروفات ومشاريع البنية التحتية لانها المحركة للاقتصاد، داعياً إلى إعادة النظر في هيكلية جميع الوظائف التي تحقق عائداً اقتصادياً صفرياً.
ويجمع العديد من المتابعين للشأن الاقتصادي ان مكافحة الفساد من شأنها توفير موارد ضخمة لخزينة الدولة، ونختتم بالقول إن خلق بيئات العمل المنتجة التنافسية من شأنه أن يعود الجميع على الامتثال للقوانين، وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة والعدالة ومنح فرص التدريب والدراسة والترقي لمن يستحقها. إن القطاع العام مترهل في قطاعات عديدة وغياب المساءلة والمحاسبة والتقدير الصحيح للموظف المجد يخلق حالة من الإحباط العام ويضعف الإنتاجية، والإبداع، والابتكار، كما أن وجود موظفين بلا صلاحيات منذ أزمة 2011 تحتم السؤال: إلى متى يستمر هذا الوضع غير القانوني للمؤسسة وللموظف معاً؟
إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"العدد 4770 - الإثنين 28 سبتمبر 2015م الموافق 14 ذي الحجة 1436هـ