يكشف فيلم وثائقي جديد لـ "بي بي سي عربي" عن دور الشباب من القومية الكردية داخل تنظيم "داعش"، ويلقي الضوء على أسباب انضمامهم إلى حركة تقاتل أبناء جلدتهم في العراق وسورية وتركيا ويتحدث عن أثر ذلك على مجتمعهم الكردي داخل إقليم كردستان العراق، وذلك حسبما أفاد موقع "بي بي سي" اليوم الاثنين (28 سبتمبر/ أيلول 2015).
الصورة الرائجة للعلاقة الكردية مع تنظيم "داعش" صورة عدائية؛ فالبروز المفاجئ للتنظيم صيف العام 2014 تَمثل في سيطرته الصادمة على مدينة الموصل العراقية وزحفه نحو إقليم كردستان العراق حيث خاض على الطريق عدداً من المعارك مع قوات البيشمركة، خصوصاً بعد الانهيار غير المتوقع لقوات من الجيش العراقي النظامي في الموصل ومحيطها. تبع ذلك قتال طويل ودموي للسيطرة على مدينة عين العرب (كوباني) شمال سورية.
لكن الصورة الأخرى، المجهولة، هي صورة المقاتلين الكرد ضمن صفوف تنظيم الدولة الإسلامية. مقاتلون معظمهم من إقليم كردستان العراق، وبعضهم من سوريا وحتى من تركيا. لكنهم جميعاً انضموا مع آخرين إلى تنظيم تنظيم يقاتل، ضمن من يقاتل، الكرد في العراق وسوريا وتركيا.
يلتقط وثائقي" بي بي سي عربي" الجديد، "كرد الخلافة" صورة للمجتمع الكردي الآن وقد أصبح تنظيم "داعش" مسيطرا على مساحات واسعة من الأراضي المجاورة له والمحيطة به.
وفيه نرى آثار بروز هذه الحركة الجهادية العنيفة والدموية على المجتمع الكردي، ليس فقط بسبب الحرب الشرسة التي تخوضها ضد المناطق الكردية العراقية والسورية، بل أيضا بسبب انضمام المئات من الكرد أنفسهم إلى هذا التنظيم وقيادتهم لهجمات ضد المناطق الكردية نفسها.
من المشاهد التي ينقلها الفيلم مشهد شابين كرديين من مدينة حلبجة في كردستان العراق يسقطان في ساحة القتال؛ أحدهما يقاتل في صفوف التنظيم والآخر يقاتل ضده خلال تصديه لهجوم هذا التنظيم على الإقليم. مقتل الشابين يصيب أسرتيهما بالكثير من الحزن يقرّبنا الفيلم من ألم شقيقي الشابين القتيلين ونحن نسمع كلاً منهما يتحدث عن ظروف فقدانه لشقيقه وأثر ذلك على علاقات كل من أسرتيهما بمجتمعهما الصغير. لكن الحزن ليس الشعور الوحيد هنا.
إذا نظرنا إلى الوضع بشكل أوسع ضمن المجتمع ككل فسنلاحظ الكثير من الغضب أحياناً، غضب يحمله أفراد أُسَر المقاتلين ضمن قوات حكومة إقليم كردستان العراق، المعروفة باسم البيشمركة، تجاه أُسَر المقاتلين الكُرد داخل التنظيم. هذه المشاعر تتجلى بصور عديدة تثبت ازدياد وتعمق الشرخ الاجتماعي أكثر مع سقوط المزيد من الأبناء في المعارك ضد التنظيم.
كيف حدث ذلك؟
أحد أنجح أساليب تنظيم "داعش" لتجنيد مقاتلين لصالحه من جميع أنحاء العالم هو الاعتماد على الدعاة. رجال يستغلون الكاريزما التي لديهم وقدراتهم الخطابية للترويج لعقيدة التنظيم الجهادية وجرّ الشباب للقتال في صفوفه.
وكما نرى في الفيلم، هذا الأسلوب هو الأكثر نجاحاً في إقليم كردستان العراق أيضاً. يُبقينا الفيلم في مدينة حلبجة الصغيرة، قرب الحدود الإيرانية، ليعرفنا على "خَطـّاب الكردي" الذي كان أحد أبرز الوجوه التي يعتمدها التنظيم لاجتذاب الشباب الكرد عن طريق المقاطع المصورة التي تخاطب الكرد بلغتهم على الإنترنت.
خَطـّاب الكردي نفسه قتل شتاء العام الماضي خلال قيادته القتال في عين العرب (كوباني) السورية.
ليس من السهل معرفة مدى انتشار تعاطف بعض الكرد في إقليم كردستان مع تنظيم "داعش"، لكن الفيلم يخبرنا عن تأثير بعض رجال الدين والمدارس الدينية وخطباء الجوامع في نشر التطرف أو التعاطف مع أفكار التنظيم، ويعطينا الملا شوان نموذجاً. فالملا شوان كان خطيباً في أحد مساجد أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، قبل أن يختفي ليلتحق هو وأسرته بتنظيم "داعش" ويظهر لاحقاً في أشرطة التنظيم الدعائية. نراه في أحدها واقفاً إلى جانب أقفاص حديدية فيها أسرى التنظيم من البيشمركة. ومهما كان حجم التعاطف الحالي مع أفكار تنظيم “داعش”منتشراً، فانه ليس جديداً أبداً!
التاريخ يعيد نفسه
يعود بنا الفيلم إلى محاولة سابقة في بداية القرن الحالي لإقامة ما يشبه إمارة إسلامية مصغرة في إقليم كردستان، عندما شُكل تنظيم جهادي كردي سُمي "أنصار الإسلام"، عام 2001، وتمكن من السيطرة على سبع قرى كردية في منطقة بيارة قرب حلبجة وتشكيل قوة مقاتلة من المئات من أبناء المنطقة. كما تحولت المنطقة آنذاك إلى ملاذ لعدد من "الأفغان العرب" الفارين من أفغانستان بعد سقوط حكم حركة طالبان العام 2001.
هذه المحاولة انتهت مع الغزو الأمريكي البريطاني للعراق، لكنها مؤشرٌ واضحٌ على الحضور القديم للفكر الجهادي في مجتمع الإقليم، ووجود تربة تربوية مناسبة لنموه وانتشاره، خصوصاً أن تلك المنطقة ذاتها كانت عام 2003 ممراً رئيسياً للجهاديين وعناصر تنظيم القاعدة الذين أتوا إلى العراق لقتال القوات الغربية الغازية. من بينهم كان أبومصعب الزرقاوي، الأب الروحي لتنظيم "داعش".
ويلفت الفيلم نظرنا إلى الشبه الكبير بين خطابي "تنظيم" اليوم و "أنصار" الأمس، مثل تكفير الأحزاب الكردية في الإقليم واتهامها بـ "العلمانية" و "موالاة اليهود والصليبيين" و "محاربة الشريعة الإسلامية".
وكلا الخطابين لجأ إلى مخاطبة الشعب الكردي بمفردات تشير إلى وجود معرفة جيدة بمشاكل الإقليم وهموم أهله ومجتمعه.
رغم الجرح الذي تركه التنظيم في ذاكرة المجتمع الكردي المحافظ، عندما سبا آلاف النساء الأيزيديات وتاجر بهن، ورغم مواصلته شن هجمات على المناطق الكردية قتل فيها كثيرون، ليس هناك ما يشير إلى انشقاق عناصره من القومية الكردية وعودتهم إلى مجتمعهم وأسرهم. لا بل يبدو أنهم يتفاخرون بالقتال في الصفوف الأمامية في معارك عين العرب في سوريا وجبل سنجار في العراق.
وعلى كل حال، فالمؤكد أنه حتى لو انتهى عسكرياً وجود هذا التنظيم على الأرض، وهو أمر مستبعد الحدوث سريعا، كما تشير الوقائع حاليا، فإنه بالتأكيد سيترك خلفه الكثير من الجراح في المجتمع، وسيترك ممن يحملون أفكاره وينتظرون فرصتهم لتجسيدها.