يقطع أي منا آلاف الأميال ليستلهم قيمة وأثراً وأكثر من معنى. يقطعها لتكون لروحه حصة من ثراء وغنى، وقوفاً على قيم الشرف والبطولة والفداء والروح التي مازالت إلى يومنا هذا يستلهم منها البشر كل رفعة وسمو.
وبالنسبة إلى الذين لديهم من الموهبة ما يمكّنهم من التحليق في دنيا الخيال، سيجدون أنهم في مثل ذلك العالم مغمورون وبما لا يجدون له تفسيراً من الهيبة والحضور المتألق الذي كأنه لم يغادر الزمن، بل على العكس هو في العمق والصميم منه. سيجدون أنفسهم حيارى وعاجزين عن احتواء تلك المعاني والقيم التي من أجلها أقام مثل أولئك الحياة في أجلى وأروع معانيها وشواهدها.
في الطريق إلى سادة الأوقات والقلوب والقيم أيضاً، يشعر المرء بأنه خارج للتو من زمن علق به كل ما تشوه وأسيء إليه. إلى المنبع والمنهل الصافي الذي لم تدنسه أي جاهلية، ولم تنل منه كل مغريات الدنيا، ولم يتورط في عالم من التآمر والأنانية وحب الذات واللهاث وراء الحطام. سيجد نفسه أمام الخلود والذين صنعوه، وأمام الشرف والذين بذلوا أرواحهم من أجله، وأمام الكرامة التي بدونها لا قيمة ولا أثر ولا معنى للإنسان، وأمام الذين صنعوا للإنسان الطريقة المثلى التي يضمن بها صلاح شئونه في هذا العالم المؤقت والعابر، وكذلك في العالم المقيم.
في الطريق إلى مصدر من مصادر النور، في القلب سعة وتعجُّل. سعة بذلك الفيض الذي يحتويه ويأخذ به المأخذ الجميل من السكينة. وتعجُّل للوقوف، شاهداً على كل ذلك. على قيم الشرف والبطولة والفداء والكرامة والفناء في ذات الله.
في الطريق إلى سادة الوقت، كأنك بأكثر من جناح. غابة من أجنحة يكاد جسدك مهما خفّ لا يقوى على وفرتها.
حين تصل الحضرة يغمرك نور ليس كأي نور عهدته في دنياك. يغمرك شعور بأنك انسلخت من لحظة الزمن الذي تنتمي إليه، إلى لحظات لم تدنسها جاهليات، ولم تعلق بها مصالح، ولم تنشدّ إلى الأنانية والعبودية للذات.
حين تصل الحضرة تستجلي كل ما تفتقده في هذا الزمن الفقير. الفقير من كل القيم التي باتت عصية على هذا الزمن وجزء كبير من بشره.
حين تصل الحضرة تكون تلك الأجنحة الوفيرة قد بدأت معراجها نحو استجلاء المواقف التي صنعت الزمن الغابر، وربّت الإنسان على المُثل، وعمّقت فيه الإحساس بذاته كي يكون على اتصال بالذوات البشرية من حوله، دون تمييز أو عنصرية.
حين تصل الحضرة، تنسلخ من زمنك الموبوء والمتورط بأكثر من جاهلية، وأكثر من أسقام. تجد نفسك في حيوية لم تعهدها من قبل، ولم تك على وارد اتصال بها، أو إحساس بمداها الذي يبدو غامضاً، ولكنه ليس كذلك، لولا أنك هنا، في ذروة الحس وانتباهه وحضوره. إنه غموض الزمن الذي تحياه، بكل ذلك السقم والشتات الذي يعانيه، وصار جزءاً منه ومن ملامحه.
كأنك التقيت نفسك الضائعة الهائمة في هذا الوجود المليء بالعبث، والمزدحم بالمصالح، والموبوء بالمؤامرات.
كأنك في حال اكتشاف مع نفسك التي أضعْتها في زحمة الحياة، واللهاث وراء القشور، والانهماك بالمؤقت. لا مؤقت هنا. كأن الزمن هنا يبدأ وعنده ينتهي. كأنك تتعرف على نفسك للمرة الأولى التي تغمرك بها الحضرة والذين هم في سمائها لا التراب.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4769 - الأحد 27 سبتمبر 2015م الموافق 13 ذي الحجة 1436هـ
تقبل الله
سلمت يداك ايتها المبدعة، تقبل الله وجدد اسفاركم