العدد 4767 - الجمعة 25 سبتمبر 2015م الموافق 11 ذي الحجة 1436هـ

كرزكان وجاراتها: حضارة نشأت قبل قرابة خمسة آلاف عام

صورة تخيلية للقرى التي سبقت حقبة دلمون في شرق الجزيرة العربية (1988 Rice)
صورة تخيلية للقرى التي سبقت حقبة دلمون في شرق الجزيرة العربية (1988 Rice)

تشير الدراسات الآثارية إلى أن الاستيطان بدأ في البحرين منذ أن تكونت كجزيرة، إلا أن هوية الجماعات التي استوطنتها غير محددة، فلا يوجد شيء خاص بها يمكن أن نجعل منه رمزاً لهويتها؛ فكل ما عثر عليه شبيه باللقى الآثارية التي عثر عليها في مناطق أخرى في شبه الجزيرة العربية (Cleuziou 1999). وفي الحقبة الممتدة بين 5300 - 4300 ق. م. نشأت علاقة بين الساحل الشرقي للجزيرة العربية والجنوب الرافدي، وهي الحقبة التي عرفت باسم الحقبة العُبيدية (Carter 2006). وبدأ ظهور فخار العُبيد في البحرين منذ نهاية الألف الخامس الميلادي؛ حيث وجدت هذه الكسر بشكل خاص في مستوطنات صيادي السمك في منطقة المرخ (ليست هي قرية المرخ)، وموقع عين أم إجراي في كرزكان ومنطقة أخرى بين قريتي الدراز وباربار (Larsen 1983, appendix II).

بعد الحقبة العُبيدية حدثت قطيعة بين الجنوب الرافدي وشرق الجزيرة العربية؛ وربما يعود ذلك لتغير الظروف المناخية التي أدت إلى أن تكون منطقة شرق الجزيرة العربية شبه خالية من السكان (Uerpmann 2003). وفي قرابة العام 3300 ق. م.، أي في بداية حقبة جمدة نصر في الجنوب الرافدي، بدأت العلاقات تعود بين شرق الجزيرة العربية والجنوب الرافدي؛ حيث عثر على آثار في شرق الجزيرة العربية تدل على وجود استيطان في الحقبة 3300 - 2400 ق.م (Piesinger 1983, p. 467). أما في البحرين، فتشير الدراسات الأولية، إلى أنه لم يتم العثور على دليل واحد، ذي قيمة، يدل على وجود استيطان عليها في هذه الحقبة (بوتس 2003، ج1، ص 172). وبالتالي، نشأت ثغرة تاريخية غريبة، وهي عبارة عن فجوة من مئات من السنين بين انتهاء الحقبة العُبيدية قرابة العام 3500 ق. م. وحتى الفترة التي ظهرت فيها هوية مميزة للحضارة في البحرين وذلك في قرابة العام 2300 ق. م.

وخلال تلك الفجوة التاريخية التي تبلغ أكثر من ألف عام، ظهرت هوية دلمون الأسطورية، وكذلك ظهر اسم دلمون مرتبطاً بمنطقة جغرافية معينة مازال الباحثون مختلفين على تحديدها. هذا ومنذ العام 1983م بدأ الترجيح أن دلمون بدأت في شرق الجزيرة العربية، ومن ثم انتقلت لجزيرة البحرين قرابة العام 2300 ق. م. (Potts 1983). إلا أن هناك آثاراً عثر عليها في البحرين تشير بوضوح لبدء الحضارة في البحرين منذ حقبة جمد نصر أي بين الأعوام 3200 - 2500 ق.م.

آثار جمدة نصر في البحرين

من ضمن العديد من اللقى الآثارية التي عثر عليها منذ بدأ عمليات التنقيب في البحرين، يوجد بعض اللقى الآثارية المهمة التي تعود لحقبة جمدة نصر، وهذه اللقى الآثارية تشير بوضوح لوجود استيطان في جزر البحرين منذ بداية ذكر اسم دلمون في حضارة وادي الرافدين قرابة العام 3200 ق. م. إلا أن هذه الكشوفات قد أهمل ذكرها وبالخصوص بعد منتصف الثمانينيات. إن مثل هذه اللقى، إذا ما تمت دراستها مجدداً، ترسم تاريخاً جديداً لدلمون، بل إنها، ربما، ترجح أن حضارة دلمون بدأت في البحرين قرابة العام 3200 ق. م.، على رغم أن الرواية الرسمية تحدد أن حضارة دلمون بدأت في البحرين قرابة العام 2300 ق. م.

يذكر أن تلك اللقى الآثارية، التي تعود لحقبة جمدة نصر، عثر عليها في ثلاثة مواقع أساسية في البحرين هي: موقع معابد باربار، وموقع الحجر، وشرق كرزكان. ويلاحظ أن هذه المواقع الآثرية تقع بالقرب من المواقع الأثرية التي عثر فيها على آثار الحقبة العُبيدية. ففي موقع معابد باربار، يرجح أن معابد باربار قد شيدت على منطقة كانت في الأصل مستوطنة تعود لحقبة جمدة نصر؛ حيث عثر على قطعة فخار تعود لتلك الحقبة (Mortensen 1986).

وكذلك، في موقع الحجر، وبالتحديد في التل رقم 1، والقبر رقم 1 في هذا التل، عثر فريق التنقيب فيه على ختم يشابه أختام فترة جمدة نصر التي تعود للحقبة 3200 - 3000 ق. م. (Rice 1971, 1988). وقد صاغ Rice نتيجة مفادها أن هذا القبر استعمل على مرحلتين، المرحلة الأولى، وهي التأسيسية، ويعود تاريخها إلى نحو العام 3000 ق.م، وقد تأكد هذا التاريخ من الختم الذي عثر عليه فريق التنقيب في هذا المدفن. وفي المرحلة الثانية من استعمال المدفن تم فصل جزء من طوله (قرابة متر) بإضافة جدار في الجهة الشرقية من امتداده، وقد عملت في الجدار درجتان للدخول والخروج من المدفن عند الحاجة. وتعود هذه المرحلة إلى العصر الكشي (1600 - 1200 ق. م).

وهناك من الباحثين من يرى أن الختم ربما جلب للبحرين من الجنوب الرافدي في فترة متأخرة، أي الحقبة الكشية، وتم قطعه وإعادة استعماله (بوتس 2003، ج1، هامش ص 142). إلا أننا نرجح أن هذا القبر بُني في مرحلة جمدة نصر، ما يدل على وجود استيطان في البحرين في الحقبة 3200 - 2300 ق. م. وما يجعلنا نرجح ذلك هو اكتشاف قبر آخر يعود لحقبة جمدة نصر في شرق كرزكان.

قبر كرزكان وحقبة جمدة نصر في البحرين.

في العام 1986م اكتشف قبر في تلال القبور التي تقع في شرق قرية كرزكان، يعود لحقبة جمدة نصر. وهذا القبر تمت دراسته بصورة مفصلة وتم تحليل جميع اللقى الآثارية التي توجد فيه، وجميعها تعود للحقبة نفسها، وقد أعطي القبر حقبة تاريخية واسعة، نسبياً، بين 2600 - 3200 ق. م. (Laursen 2013).

وتشير الدراسة التحليلية التي أجريت على بعض الفخار الذي عثر عليه في هذا القبر، أن هذا الفخار صنع في البحرين وبالتقنية نفسها التي صنع بها فخار دلمون (Laursen 2013). يذكر أن طريقة صناعة الفخار تعتبر بصمة خاصة تدل على هوية من صنعه، وهذه النتائج تدل على امتداد في طريقة صناعة الفخار الدلموني لما قبل حضارة دلمون؛ ما يدل على وجود مستوطنات أولية، سبقت المدن الدلمونية، وقد صنعت لنفسها فخاراً خاصاً بها، وبتقنية خاصة استمرت قرابة ألف عام، قبل أن يظهر فخار دلمون، بهويته المعروفة، وذلك قرابة العام 2300 ق. م.

إلا أنه، إلى الآن، لم يتم العثور على مستوطنات في البحرين تعود لحقبة جمدة نصر، ويمكننا أن نعلل ذلك بأحد احتمالين، الأول، أن هناك آثاراً لمثل تلك المستوطنات، ولكن لم يتم العثور عليها بسبب نقص عمليات التنقيب المنظمة؛ حيث إن غالبية عمليات التنقيب كانت عمليات إنقاذ، حتى أن غالبية تقارير تلك العمليات لم تنشر بعد. الاحتمال الآخر، أن مستوطنات حقبة جمدة نصر في البحرين لم تكن تبنى بالحجارة؛ فقد تكون على صورة قرى ساحلية بُنيت بيوتها من جريد النخيل، واستخدمت فيها، أيضاً، القوارب المصنوعة من جريد النخيل، والتي استمر تصنيعها في البحرين حتى عهد قريب، وهي تعرف محلياً باسم «الفرته». يذكر أن مثل هذا الوصف للمستوطنات الأولية أعطي، أيضاً، للمستوطنات الأولية التي بنيت في شرق الجزيرة العربية في حقبة ما قبل دلمون (Rice 1994 p. 218).

الخلاصة

عثر في البحرين على لقى آثارية تشير لوجود مستوطنات أولية تعود لحقبة جمدة نصر، وإن دراسة هذه اللقى، ربما، سيؤدي لترجيح أن حضارة دلمون في البحرين بدأت قبل العام 2300 ق. م. الذي يرجحه الباحثون في حضارة دلمون. إلا أن هناك من يشكك بوجود مثل هذه المستوطنات الأولية؛ وذلك بسبب قلة اللقى الآثارية. كذلك، وبالإضافة للمستوطنات الأولية التي يرجح وجودها، فإن هناك دلائل آثارية تشير لوجود العديد من المستوطنات أو القرى الدلمونية في جزيرة البحرين، من ضمنها مستوطنات لم ينشر عنها شيء بصورة مفصلة، منها، ما سبق أن تناولناها بالتفصيل، والتي توجد في الحجر وجدحفص، ومنها ما لا يبعد كثيراً عن قبر كرزكان سالف الذكر، وهو ما سنتناوله بالتفصيل في الحلقة القادمة.

العدد 4767 - الجمعة 25 سبتمبر 2015م الموافق 11 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 7:33 ص

      الساب الزراعي

      صديقي وعزيزي استاذ حسين ... لو تحقق في سيبان التي كانت قبل 300 سنة التي تعكس حضارة بلد المليون نخلة ... ولا زالات معالم بعضها موجود مع تجاهل متعمد

    • زائر 3 | 6:10 ص

      شكرا للوسط

      معلومات قيمة أستاذ حسين
      ننتظر المزيد من مجهوداتك البحثية المميزة .

    • زائر 2 | 5:13 ص

      موضوع ممتاز

      بارك الله فيكم نحتاج الى هذا التاريخ لنعرفه جيدا ونوثقه

    • زائر 1 | 4:22 ص

      اسألوهم

      اسألوا وزارة الثقافة لماذا تم طمس آثار القبر في كرزكان والذي كان موجوداً شرق القرية قرب مدرسة كرزكان الابتدائية للبنين؟!
      شكراً صحيفة الوسط.

اقرأ ايضاً