العدد 4763 - الإثنين 21 سبتمبر 2015م الموافق 07 ذي الحجة 1436هـ

رايزن في «ادفع أي ثمن»: سوء الإنفاق والفساد في عهدي بوش وأوباما

كتاب استقصائي وفاضح يطالب بمساءلة هرم السلطة...

جيمس رايزن
جيمس رايزن

هل تغيَّرت ذهنية الساسة الأميركيين بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001؟ هل تنامت وتصاعدت عقلية المؤامرة؟ هل لكل ذلك كُلَف يمكن رؤية بعضها؛ فيما بعض آخر عصيٌّ على الرؤية؟

كتاب «ادفع أي ثمن» للصحافي الاستقصائي الأميركي جيمس رايزن، يذهب في اتجاه وضع الفضيحة تحت الضوء. فضيحة سوء الإدارة والإنفاق والفساد. كل ذلك بأدِّلة دامغة يرى من خلالها رايزن ضرورة مساءلة الرئيس السابق جورج بوش الابن، والرئيس الحالي باراك أوباما. كتاب يشير بالوثائق المُعزَّزة بالأرقام إلى بروز فساد ومحسوبيات، وإنفاق في مجالات بعضها هلامي واقعاً.

يذهب الكتاب أيضاً في اتجاه مهم يتحدَّد في وضع الرأي العام الأميركي في المقام الأول، في صورة ما يحدث على الأرض، بعيداً عن مكنة الإعلام التي تبدو على استعداد للانقضاض على كشف كل تجاوز وفضيحة. يمكنها ذلك في حال فتح مجال حيوي للوصول إلى الوثائق والمعلومات التي يتم تجريم صاحبها في حال توافرت له فرص الوصول إليها؛ كما حدث لرايزن الذي مازال حتى هذه اللحظة يواجه استدعاء واستجواباً بعد وصول قضية كشفه عن معلومات غاية في السرية، إلى المحاكم، في محاولة للضغط عليه لكشف مصادره.

التهمة الشائعة التي كان لها صدى ورد فعل في المجتمع الأميركي من خلال مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات المهنية، تتحدَّد في رفض كشفه عن مصادر معلومات ترتبط بجهات سيادية أمنية، أولها العمليات التي قامت بها وكالة المخابرات المركزية الأميركية المرتبطة بالملف النووي الإيراني. رايزن يصر على حقه كصحافي استقصائي في البحث عن المعلومة، ذلك جانب. جانب آخر يتعلَّق بحق الجمهور في معرفة تلك المعلومة. الأمر يرتبط هنا بدور ومهنة لها قداستها وحرْمتها في أي نظام ديمقراطي، ومن المفترض أن النظام الديمقراطي الأميركي هو واحد من النماذج الشاخصة والبارزة في العالم اليوم، إلى جانب حق رايزن في المحافظة على سرية المصادر التي يستقي منها المعلومة.

لم تنتهِ قضية رايزن في المحاكم الأميركية مع وصول أوباما إلى البيت الأبيض. هنالك عقوبات قانونية، في التفصيل منها، قد تؤدي به إلى السجن ما لم يكشف عن مصادره.

لذلك بدايات هنا ملمح منها. اضطرت الإدارة الأميركية في محاولات الضغط على رايزن للكشف عن مصدر المعلومات التي تضمَّنها كتابه إلى تشكيل المدَّعي العام الأميركي قضية و «تكييفها» أمام المحاكم الفيدرالية. بين إدارة بوش وأوباما، لم يتغيَّر الوضع القانوني لرايزن؛ إذ عمدت الإدارة الجديدة إلى تجديد القضية، وتجدَّدت معه استدعاءات رايزن.

مليارات ذهبت مع الريح

بالعودة إلى حق الرأي العام في معرفة ما يدور على الأرض، وفي كواليس السياسة، بمعزل عن القصة الخبرية اليومية التي سرعان ما تُنسى وتذوب كفصِّ ملْح في خضمِّ تسارع الأحداث، أولاً لدوران عجلة القطاع من جهة، وضمان اقتطاع حصة من كعكة الإعلان والقرَّاء عبْر قضايا وملفات تضج بالإثارة، ولكنها لا تصنع واقعاً حقيقياً على الأرض. على الأقل بالنسبة إلى الشرائح المُهمَّشة في المجتمع الأميركي، وهو تماماً ما تطرَّق إليه رايزن عبر صدمة نصَّ عليها في كتابه بعد كشفه عن مليارات الدولارات التي ذهبت في مهب الريح: «لا يسعني التفكير في ما الذي يمكن أن يفعله مبلغ الـ 20 مليار دولار، أو حتى المبلغ المفقود الذي يشكِّله 11.7 مليار دولار، للمشرَّدين، وللمدارس في المناطق الحضرية الأكثر شقاء في أميركا».

الأمر أبعد من ذلك بمراحل؛ فثمَّة ما يجب الحديث عنه وحوله، يتعلَّق ببنية الفساد وإهدار أموال دافعي الضرائب وموارد البلاد، نشأت وبرزت على السطح مع أحداث 11 سبتمبر وبعدها، تجلَّت في واجهة وعنوان محاربة الإرهاب التي درّت أموالاً، وكشفت كنوزاً ما كانت لتتأتّى لولا ذلك الحدث الذي ضرب الكرامة الأميركية في مقتل، وكشف وهنها وسط قلعة أمنية هي الأضخم والأكثر إحكاماً في تاريخ الاجتماع البشري؛ ليتم تجيير تلك المليارات في حروب وهمية، سمن منها من سمن، وأصيب بالهزال من جرّائها من أصيب.

عشرات المليارات التي ذهبت مع الريح في شكل عمولات وحسابات سرية وتعاقدات لا أثر يدل عليها بعضها تورَّط فيه «مجمع الأمن الصناعي» والذي يعد أكثر انتشاراً وأكثر خبثاً من «المجمع الصناعي العسكري» وحذّر منه الرئيس آيزنهاور، ومن بينها اكتشاف يحل شفرات منظمة «القاعدة» الإرهابية، الذي تم تمريره باعتباره واحداً من حصانات الأمن القومي الأميركي، والذي (الاكتشاف) لم يتحقق من خلاله أي أمن سوى الفساد وتعميقه بعد 11 سبتمبر!

أميركا قبل 11 سبتمبر ليست هي خلاله وما بعده. تغيَّرت أمور وسياسات. صارت الكاميرات في الميادين ومراكز التسوُّق وحتى في مراكز الاستشفاء. سياسة تصبُّ في مصلحة الأمن القومي المستفيد منه شركات ومجمعات لها من الإمكانات ما ينافس الكيان الأميركي كدولة، على مستوى الاحتياطات والنفوذ والتأثير في القرار.

قبل وبعد 11 سبتمبر

حدثت تحالفات متناقضة. متناقضة مع دولة رمز في الديمقراطية مع دول على النقيض من حيث القمع والدكتاتورية، وشرْعنة الفساد. تخبُّطٌ على أكثر من مستوى. وسط كل ذلك كان المتحكِّم في اللعبة: استمرار نظرية المؤامرة، وتأبيد التهديد للولايات المتحدة؛ ولو كان تهديداً من فراغ؛ وهو كذلك في واقع ما حدث بعد 11 سبتمبر: استمرار عجلة التهويل والتخويف، كي تستمر مكنة ضخ المال لجهات على شفا حفرة من النهايات، أو ربما الإفلاس.

أميركا قبل 11 سبتمبر لم تعد هي ما بعده. تغيَّرت جغرافيات وحدود وسياسات وتواطؤ واستنزاف وإنهاك وتخبُّط على مستوى السياسة والاجتماع والاقتصاد.

ما أحدثه الإرهابيون «الإسلامويون» لم يكن سهلاً ولم يكن نزهة. كانت فظاعة بكل المقاييس. ما حدث هو ضرب في مقتل لكبرياء أكبر قوَّة في التاريخ البشري؛ باستهداف أبرز علاماتها الشاخصة والبارزة المُعبِّرة عن القوة والسطوة والهيمنة: البنتاغون، ورمزها الرأسمالي العابر للحدود من دون حاملة طائرات وتدخُّل سريع: مركز التجارة العالمي. لكن ما حدث من ضرب الكبرياء الأميركي تجاوز ذلك بكثير. أصبح غزو الدول جزءاً من رد الاعتبار لضرب الكبرياء. وما ترتب على ذلك الغزو لا يمكن تصوُّره، والوقوف على نتائجه الكارثية.

تحدَّدت القيم والحلم الأميركي في إحداث مزيد من الاضطراب وزعزعة استقرار العالم. والعالم هنا تحديداً، ذلك الذي تم تشخيص مواصفاته في حدود جغرافية لا يمكن أن تُستبدل على المدى البعيد: الشرق العربي/ الإسلامي.

أصبحت القيم تبشيراً بالفساد الذي طال الداخل الأميركي؛ ليس على مستوى المؤسسة المتحكِّمة بمصير العالم؛ بل امتد ليشمل دوائر معرفية وجهات من المفترض أن تكون معنيِّة بالحقوق. أحد شواهدها تقديم رايزن للمحاكمة حتى هذه اللحظة.

طال الفساد الداخل الأميركي وامتد ليشمل ذلك الجزء من العالم في صور شخصيات كاريكاتيرية تتصدَّر المشهد «الديمقراطي المُهجَّن» في بلادها، وهي ضالعة في الفساد والدكتاتورية والارتهان إلى قوى مدمِّرة في الخارج، والتي (القوى) أصبحت في الداخل.

حرب لا نهاية لها

المليارات «ذهبت مع الريح» ولن نتناول هنا عشرات مثلها «ذهبت مع الريح» مع تولِّي بول بريمر لمسئولية حكم الاحتلال في العراق، وما تمخَّض عمَّا بعد مرحلته من فساد ضرب كل شبْر من أرجاء ذلك البلد الذي مازال منكوباً. وجلب سياسيين بحسب مواصفات تبرير الحرب على الإرهاب، وبحسب مواصفات النسخة الممسوخة من الديمقراطية في الشرق المُتَلَاعَب به.

تكتب لويز ريتشاردسون في «نيويورك تايمز» بتاريخ 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، إضاءة ملفتة، واستعراضاً هو بمثابة مرآة ومقْراب. هي على مقربة من المرآة التي سلّطها رايزن على واقع وحقيقة المسكوت عنه في أميركا. يضاف إلى تقريرها ما كتبه جيم مايلز من استعراض للكتاب في مجلة «الشئون الخارجية» بتاريخ 23 يناير/ كانون الثاني 2015، وسنأتي على استعراضه في الحلقة الثانية من هذه الكتابة.

في كتاب «ادفع أي ثمن: الطمع، والسلطة، حرب لا نهاية لها» يُمسك جيمس رايزن مرآة تعكس صورة ما حدث في الولايات المتحدة في بحر 13 عاماً منذ أحداث 11 سبتمبر، وما تكشفه تلك السنوات من خلال المرآة ليس مشهداً جميلاً. رايزن، المراسل في صحيفة «نيويورك تايمز»، الحائز على جائزة بوليتزر، يوثِّق ظهور «مجمع الأمن الصناعي» والذي يُعدُّ أكثر انتشاراً وأكثر خبْثاً من «المجمع الصناعي العسكري» والذي حذَّر منه الرئيس الأسبق دوايت أيزنهاور. بقوَّة وعاطفة أيضاً، يروي رايزن تخلِّي أميركا عن مجتمع مفتوح، بحثاً عن اندفاع لإشباع حال من الأمن لا ينتهي بفعل تهديد غير واضح.

رايزن ليس أول من يعلِّق على التجاوزات الوحشية للحرب على الإرهاب. فقد كتب جون مولر من جامعة ولاية أوهايو مراراً وتكراراً عن أموال غير عادية أنفقت في ردِّ فعل أميركي مُبَالغ فيه على التهديد الذي يشكِّله تنظيم «القاعدة». ومع ذلك، يرجع رايزن أصل التكاليف تلك إلى تقديم تقارير مفصَّلة عن عمليات مُحدَّدة، وأفراد متورطين - اندفاعاً - في مكافحة الإرهاب، وتركيزه ليس على ويلات الحرب التي تحدث في البلدان التي غزتْها الولايات المتحدة وحلفاؤها، ولكن على الولايات المتحدة نفسها. هذه هي قصة التربُّح من الحرب، والطموح الشخصي، حروب البيروقراطية، وغياب المساءلة وكما هي دائماً، السرية في كل ذلك.

بالمهارات التي يتمتَّع بها رايزن، باعتباره واحداً من الأسماء المهمَّة في الصحافة الاستقصائية، وباعتباره أيضاً مراسلاً ذا حضور كبير في المشهد الصحافي الأميركي، يأخذنا إلى الطريقة التي تم من خلالها إرسال 20 مليار دولار إلى العراق، بوجود إشراف ضئيل، أو انعدامه في كثير من الأحيان، من دون أي توجيه واضح بشأن الكيفية التي ينبغي أن تُنفق فيه تلك الأموال. ومعظم هذه الأموال تدفقت من شرق روثرفورد بولاية نيوجيرسي. اليوم هنالك 11.7 مليار دولار مازالت مفقودة. وجد الكثير من ذلك المبلغ طريقه إلى الحسابات المصرفية الخاصة. ويبدو أن ملياري دولار تم إخفاؤها في لبنان.

(لا يسعني التفكير في ما الذي يُمكن أن يفعله مبلغ الـ 20 مليار دولار، أو حتى المبلغ المفقود الذي يشكِّله 11.7 مليار دولار، للمشرَّدين وللمدارس في المناطق الحضرية الأكثر شقاء في أميركا).

احتيال بـ 400 مليار دولار

لقد رأينا، في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر، كيف دفع الذعر بالكونغرس إلى إطلاق الاعتمادات المالية للبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، بمعدَّل سرعة غير مسبوق في العصر الحديث، أوْجدَ صعوبة في إنفاق تلك الأموال. بالطبع كان هناك العديد من المتطوِّعين الحريصين على مساعدتهم. ووُجد تقرير للبنتاغون، أنه في العقد الأول بعد أحداث 11 سبتمبر، قدَّمت وزارة الدفاع أكثر من 400 مليار دولار للمتعهِّدين الذين تمَّت معاقبتهم بسبب إجراءات احتيال تحدَّدت في مبلغ مليار دولار أو أكثر. واحدة من القصص الأكثر استثنائية تتعلق بمقامر لم يحقق نجاحاً، هو دينيس مونتغمري، الذي تمكَّن من خداع وكالة الاستخبارات المركزية بابتكار وسيلة تمكّنه من فك رسائل «القاعدة»! أثبتت وكالة الاستخبارات الأميركية نفسها بأنها أكثر سذاجة من المديرين التنفيذيين في كل من «هوليوود» ولاس فيغاس، اللتين رفضتا الاستثمار في التكنولوجيا التي ادّعى التوصل إليها مونتغمري. مزيج من قانون السرية في الحرب بين البيروقراطيين وأصحاب الطموح الشخصي، أكد أن ادعاءات مونتغمري لم يتم فحصها واختبارها، وشقَّت طريقها من خلال صفوف المخابرات إلى المكتب البيضاوي. حتى بعد أن تم كشف مونتغمري، تظاهرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بأنها لم تتورَّط في الأمر، وأبقت وزارة الدفاع العمل معه، وحاولت وزارة العدل منع أي معلومات عن هذا المخطط من أن تخرج إلى العلن.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
4 تريليونات دولار كلفة الحرب خلال عقْد من الزمن
4 تريليونات دولار كلفة الحرب خلال عقْد من الزمن

العدد 4763 - الإثنين 21 سبتمبر 2015م الموافق 07 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً