العدد 4762 - الأحد 20 سبتمبر 2015م الموافق 06 ذي الحجة 1436هـ

عندما يسود الخراب وينعق الغراب!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما تبحث عن شيء اسمه «قلب الكبير» فلن تجِدَ غيرها! وعندما تبحث عن شيء اسمه «بن طلحة» فلن تجِدَ غيرها أيضاً. إنهما باختصار منطقتان وادعتان في عنق الأراضي الجزائرية. ومن المفارقة، أن منطقة قلب الكبير هي فعلاً تتقارب في شكلها مع القلب، ما خلا جزئها الجنوبي الغربي، الذي يمتد كاللسان في منطقة بني سليمان. أما رسم قرية بن طلحة على الجغرافيا فهي أشبه بالتابوت، المنتفخ في جزئه العلوي وكأنها تضع حساباً لسِعَة مَنْكَبَيْ الجثة المسجَّاة.

قد يتساءل البعض: لماذا تذكر تلك المنطقتين الآن؟ إنه سؤال وجيه. باختصار تذكرتهما لأن لهما ذكرى حزينة مع التاريخ تصادف هذه الأيام، وتمتد ما بين: 19 - 22 من شهر سبتمبر/ أيلول. فقد وقعت فيهما مجزرتان رهيبتان لم يفصل بينهما سوى يوم واحد. ففي التاسع عشر من سبتمبر ذُبِحَ اثنان وخمسون مدنياً في قربة قلب الكبير. وبعدها بيومين، ذُبِحَ 497 مدنياً في بن طلحة، ضمن سياق الحرب الأهلية المدمِّرة، التي ضربت الجزائر لعقد كامل بعد أزمة إلغاء الانتخابات.

القاتل واحد: إرهابيون من الطراز الأول. والمقتول هو ذاته: مدنيون جُلُّهم أطفال ونساء وشيوخ. كانت الجزائر حينها تعيش أسوأ أزمة في تاريخها الحديث ضمن ما عُرِفَ بالعشريَّة الحمراء، التي وصل مجموع مَنْ قُتِلوا فيها قرابة الـ ربع مليون جزائري. كان القتل قد وصل منتهاه في الوحشية، حين كان الجناة يُقطِّعون أطراف الأطفال، ويبقرون بطون النساء، ويَفئِسُون رؤوس الرجال وكأن الجزائر قد تحوّلت إلى مسلخ كبير، يُزكم الدّم أنوف المارة.

شَهدَ شاهِدٌ كان حينها يبلغ من العمر 18 عاماً في إحدى تلك المجزرتين وهي بن طلحة، أن القَتَلَة لغَّموا الحي ومداخله ومخارجه كي لا يتسلل منقِذ للضحايا. بدأ الهجوم في الساعة الحادية عشرة ليلاً وانتهى في الثانية والنصف صباحاً. انجلت الغبرة وإذا بـ 497 روحاً مزهوقة. إحدى العائلات فقدت لوحدها 29 فرداً في تلك الليلة. وبعض الضحايا جاؤوا إلى المنطقة في الصباح هاربين «من أحواش بوفاريك والأربعاء» اتقاءً فغُدِرَ بهم في المساء، وكأن الموت صار سماء لهم.

قد يُقارن البعض عدد الضحايا في بن طلحة الـ 497 بعدد سكان الجزائر الـ 37 مليوناً، كي يُقلِّل من حجم الرقم، لكن عليه أن يُقارن ذلك الرقم بعدد سكان تلك البلدة المنكوبة في ذلك الوقت والذي لم يتجاوز الـ 2000 نسمة، حينها سيعلم أن 24.8 في المئة من السكان قد أبِيْدوا عن بكرة أبيهم! وحين ينتهي ربع سكان منطقة ما سيعلم المرء أن مجتمعها قد وُضِع تحت نظام الموت دهراً كاملاً.

قبل فترة نُشِرَ تصريحٌ لإحدى طبيبات الطب الشرعي وتشريح الجثث بمستشفى فرانس فانون الجزائري وهي البروفيسور مساحلي كلتوم، لتشهد على مدى وحشية ما جرى في تلك العشريّة الحمراء، مشيرة إلى أنها وعلى رغم عملها اليومي الروتيني في استقبال الجثث فإن الرعب قد تملّكها حين كانت تستقبل أشلاء الضحايا بشكل يومي أو هياكل عظمية «مكسوّة بقليل من اللحم». فالضحايا كانوا يُقطّعون بالسواطير أو بالتفجيرات. كانت تقول «لطالما قضت وزملاؤها بالمصلحة أياماً بلا نوم جراء الاعتداءات الإرهابية والمجازر وعاشت بين مئات الجثث والقتلى».

الحقيقة أن ما جرى في الجزائر ما بين 1992 ولغاية العام 2002م كان صدمة. صدمة للشعب وصدمة للدولة وصدمة للطبقة السياسية. هذه الصدمة لايزال صداها مُدوِّياً في آذان الجميع. فالبلد الذي قدَّم مليون شهيد في سبيل الاستقلال، صارت الأرواح فيه تُزهَق في قضية مجهولة! نعم مجهولة الهوية والمآل: لا شعار، ولا هدف ولا منهج ولا نتائج! إنها العدمية بأقصاها.

عندما كنتُ أستمع للعديد من حوارات زعيم الجيش الإسلامي للإنقاذ مدني مرزاق وهو الذراع العسكري للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، ظَهَرَ ذلك جلياً. فمنذ العام 1995م أي بعد ثلاثة أعوام على صعود الإنقاذيين إلى الجبال لشن هجمات على الدولة والجيش، بدأت الأمور تتضح للجميع بأن الجزائر في طريقها للزوال إذا لم يُوضَع حدٌّ لهذه المذبحة.

لقد وصل الأمر لأن يقوم رجل المخابرات القوي إسماعيل العمَّاري بلقاء رجل الجبل القوي مدني مرزاق، في الوقت الذي كان الأول يعتبر الثاني إرهابياً والثاني كان يعتبر الأول كافراً، ولاحقاً لأن يدخل رأس الدولة حينها الرئيس السابق اليمين زروال بنفسه وثقله في الأمر ذاته. إنها المسئولية المتبادلة التي شعر بها الطرفان. لماذا؟

في أزمة الجزائر، تبيَّن أن مَنْ راهنوا على عسكرة الأزمة من الجانبين اكتشفوا أن تبعات هذا القرار لم يعد حصراً بأيديهم حين دخلت الفلول من كل حَدب وصوب، بعضها معلوم والآخر مجهول، وبالتالي فَقَدَ الطرفان زرّ التحكم في من سوف وشكل معادلة الصراع. كما أن الذي ظهر لهم هو أن امتداد الأزمة قد ولَّد شكلاً جديداً من التأزيم يقوم على بروز قوى جديدة لها مرتكزات من المصالح ما تلبث أن تتعاظم، فتتموضع بين عظام الاقتصاد الجزائري ومؤسساته، فأصبحت ذات تأثير مباشر وغير مباشر على شئون المعركة المستعرة، وبالتالي بات صعباً السكوت عنها.

وإذا ما أردنا الحقيقة، فإن هذا التوصيف لم يكن خاصاً بالجزائر فقط، بل هو أمر تكرر ويتكرر وسيتكرر في كل أزمة سياسية تعصف بأي بلد كان. فالأزمات عادة ما تنعقد نطفتها لتتحول إلى ساحة بلا جدران. وعندما لا يكون هناك حدٌّ جغرافي للأشياء لا يكون هناك حدٌّ للعبث! وعندما يسود العبث يسود الخراب وينعق الغراب.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4762 - الأحد 20 سبتمبر 2015م الموافق 06 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 8:57 ص

      مؤلم وضع العرب والمسلمين

      لماذا كل هذه الوحشية

    • زائر 2 | 2:19 ص

      فرعون لم يؤمن الا حين ادركه الغرق

      اذ لا فائدة من ايمانه المتأخر جداً وهذا هو نهج الفراعنه مهما كانت النصائح والإرشادات .

    • زائر 1 | 10:20 م

      روعه.

      وكأنك تعنى من يعنيهم الامر ف هذا البلد اللذى لا نتمنى ان يصبح كا الجزائر. ولكن هل يعى من على قلبه غشاوه؟ ويترك التعنت ويسعى الى الطريق السوى اللذى ينقد البلاد والعباد؟

اقرأ ايضاً