كتل بشرية يصل بعضها إلى 18 فردا متكدسة في بضعة أمتار، أولاد وبنات كبار وصغار يزاحمون بعضهم في غرف صغيرة أشبه بالزنازين، كومات ثياب متناثرة هنا وهناك، وحاجات خاصة وعامة تدوسها الأرجل مضطرة، وأغراض طبخ ممتزجة ببعضها في زوايا تلك الشقة الضيقة... هكذا تسكن عشرات الأسر البحرينية التي أخرجتها من «صنادقها» الآيلة للسقوط الآمال المعلقة على وعود حكومية ببيوت ليست «آيلة» على الأقل.
سيجد من لا يريد الحقيقة مبالغة كبيرة فيما ذُكر أعلاه، ولن يكلف نفسه العناء بسؤال الأعضاء البلديين في المحافظات الخمس (بلا استثناء) عن الحرج الذي بات يلاحقهم كل يوم، وعن واقع الأسر الضائعة. ولكن سأكون مستعدا لأخذ أي مسئول، بيده أن يفعل شيئا، في جولة سريعة لزيارة ولو واحدة من «شقق الموت» ليتعرف على أصحاب القلوب الآيلة للسقوط، بانتظار لحظة الخروج من عنق الزجاجة.
أن تبادر القيادة السياسية بمشروع طموح وإيجابي يخرج الأسر محدودة الدخل من مستنقع البيوت المتهاوية وينقذ أرواح الأبرياء فذلك عين العدل والصواب وجزء من إحقاق الحق، ولكن أن يتخلى المسئولون عن المشروع في منتصف الطريق، ويترامون مسئولية تراجعه كل على الآخر، فيذرون الأسر المعدومة معلّقة لا بيوت ولا مساكن بديلة ولا بدل إيجارات فهذا أسوأ أساليب الامتهان واللعب بالكرامة...
لنا أن نتخيل حال مئات الأسر البحرينية المشردة، فبعضها رجعت بالهضيمة إلى مساكنها المتهالكة تفضل الموت على المهانة، وأخرى مازالت عالقة في شباك الوعود الوردية التي منّتها ببيوت تستر الحال فتركتها في شقق ضيقة بالإيجار لم تستر لها حالا، ولم تدفع عنها إيجارا ولم تقم لها جدارا بدلا من الجدار «الآيل» الذي هدمته!
المال البحريني... لمن؟
لم تمض سوى أيام قلائل على تدشين تقرير «حالة المدن المنسجمة» بنسخته العربية في البحرين الذي ساهمت الحكومة (ماديا) في دعمه، ورأى البحرينيون المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية أنا تيباجوكا، كيف تتوج بوسام البحرين «تقديرا لجهودها في مساعدة الإنسانية وتقديم الدعم والمساعدة لنشر التنمية والتجديد الحضري في ربوع العالم»، ولكن إن كانت عيون الأمم المتحدة لا ترى، أو كانت تيباجوكا غافلة أو تتغافل عن واقع الحال في البحرين، وهمها الأول الحصول على الدعم الحكومي (المادي) لمشروعاتها، فإن أصحاب البيوت المهدومة على الأقل كان ومازال سؤالهم الوحيد: ماذا لو أنفقت الحكومة جزءا من هذا الدعم منقطع النظير لتيباجوكا ومشروعاتها من أجل تغطية عجز موازنة مشروع «البيوت الآيلة للسقوط» لتنقذنا من فك الحرمان؟!.
سؤال وجيه بمعنى الكلمة. فالحكومة لم تذهب بعيدا في تشابه موغل مع «عذاري»، لأنها تسقي البعيد وتترك القريب. وهذا هو حال البحرين وموازناتها المشتتة على بطون الغرباء والأغنياء، وليس للأسر الفقيرة فيه نصيب سوى رحمة الله.
اللافت في تقرير «المدن المنسجمة» الذي تباهت به الحكومة أيما مباهاة، أنه يدعو إلى ضرورة التركيز على ثلاثة مجالات رئيسية في ميدان التنمية الحضرية: الانسجام العمراني (المكاني) والانسجام الاجتماعي والانسجام البيئي، فيما لن تحتاج تيباجوكا وزملاؤها إلى جهد جهيد لو أرادت لتكتشف أن البحرين واحدة من أكثر دول العالم تناقضا وازدواجية في العمران والطبقية الاجتماعية والفساد البيئي.
البحريني أولا... لا تستعجلوا
إذا، السمعة وما أدراك ما السمعة! فلتذهب الأسر الفقيرة ضحية الشتات ولتبقى سمعة البحرين تدوي في المحافل. هكذا يريد المسئولون. وإلا، فلو كانت ثمة جدية وبعض الصدق في تصريحات المسئولين بجعل البحريني أولا لما قدمت صكوك الدعم المستمر سرا وعلنا لمؤسسات ومشاريع وجوائز دولية، وتركت مشروعات حيوية كالإسكان والبيوت الآيلة، معلقة بحجة شح الموازنة.
أقل ما يمكن قوله عن صمت الجهات المعنية إزاء ضياع الأسر أنه «دوس على الكرامات». سينشغل المسئولون هذه الأيام بالاصطياف في أفخم الفنادق الغربية بمبالغ خيالية تصرف من جيب موازنة الدولة، فيما سيظل الأطفال والشباب القابعون في «شقق الموت» يترقبون فتات رواتب الوزراء والنواب وتقاعدهم من أجل بناء جدار «يستر الحال» فقط، فلا أحد تأخذه الرأفة بهذه القلوب الآيلة للسقوط.
وإن لم تصدقوا اسألوا البلديين فإنهم يعلمون
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2473 - السبت 13 يونيو 2009م الموافق 19 جمادى الآخرة 1430هـ