تثير الاحتجاجات التي شهدها العراق ضد الفساد وعجز الإدارة الانتباه إلى برنامج الإصلاحات المتعثرة المعلن عنها من قبل رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، وكذلك إلى آثار سيطرة تنظيم "داعش" على أجزاء من البلاد.
الصحافية في دويتشه فيله، كيارا كروشاتي تستعرض معوقات إصلاح المشكلات الهيكلية المتجذرة في نظام ما بعد حقبة صدام حسين في العراق، في تقريرها التالي:
بدأت الاحتجاجات مع ارتفاع درجات الحرارة أثناء أشهر الصيف، وانقطاع التيَّار الكهربائي بشكل متزايد أدَّى إلى إيقاف أجهزة تكييف الهواء. وزاد الطين بلة بسبب المشكلات الهيكلية المتجذِّرة بعمق في النظام السياسي العراقي في عهد ما بعد صدام حسين. وهكذا فقد تحوَّل شهر أغسطس/ آ[ 2015 إلى شهر احتجاجات ضدَّ الفساد وسوء الخدمات العامة وطائفية الطبقة السياسية الحاكمة وعدم إعادة توزيع الثروة.
غير أنَّ الأشخاص الذين خرجوا في هذا الشهر إلى الشوارع، لم يكونوا مثلاً من أتباع المذهب السُّنِّي، بل لقد كانوا في المقام الأوَّل من الشيعة، إذ كانوا يتظاهرون بصوت مرتفع خاصة في شوارع بغداد وكربلاء والنجف والناصرية والبصرة.
أمَّا جهود رئيس الوزراء حيدر العبادي والإصلاحات التي تم إدخالها في بداية شهر أغسطس 2015، فقد وجدت في البداية إعجاب آلاف العراقيين. ولكن سرعان ما فترت همة الإصلاح، وباتت الحكومة مرهقة نظراً إلى هجمات تنظيم "داعش" واستمرار حالة الجمود السياسي والمؤسَّساتي. ومنذ عدة أعوام بات العراق يتربَّع على رأس قائمة الدول ذات أعلى معدلات الفساد الداخلي، الأمر الذي يأتي من دون ريب في مصلحة دعاية المتطرفين، إذا تم ربطه مع تعثُّر عملية إعادة الإعمار في البلاد.
تكوَّنت في هذه الأثناء من الاحتجاجات الأخيرة في العراق حركةُ احتجاجات عفوية، اقتصرت حتى ذلك الحين على بعض المدن العراقية. وهذه الحركة الجديدة تتألـَّف من شرائح كثيرة ومختلفة من المجتمع العراقي، من بينها منظمات علمانية ودينية وحتى أفراد ليبراليون وشيوعيون. وهي حركة لا ترفع سوى راية واحدة، أي العلم الوطني العراقي.
إعاقة التغيير
ولكن، إنَّ ما يكبح الحاجة إلى التغيير، يكمن في السياسة المتَّبعة من قبل الحكومة العراقية الحالية بمحسوبيتها ومصالحها السلطوية. وهذه العوامل تمثِّل حاجزاً غير مرئي، تتم من خلاله إعاقة البلاد ويؤدِّي كذلك إلى كبح الإصلاحات المعلن عنها من قبل رئيس الوزراء حيدر العبادي.
وعلى العكس من سياسة المحسوبية والمحاباة التي عُرف بها سلفه نوري المالكي فقد جعل حيدر العبادي منذ أكثر من عام الشفافية والصدق شعار حكومته. ولكن يبدو حالياً أنَّ جميع وعود الإصلاح هذه قد ذهبت أدراج الرياح، وذلك بسبب غزو مقاتلي تنظيم "داعش" ثلث مساحة البلاد وكذلك معارضة العديد من مراكز القوى الخفية في العراق للإصلاحات.
تم الإعلان مؤخرًا عن فتح المنطقة الخضراء في بغداد، غير أنَّ طبيعة هذا الإعلان هي بالأحرى رمزية. إذ إنَّ رفع الحواجز المنتشرة في هذه المنطقة الأمنية والمغلقة منذ أكثر من عشرة أعوام، يفترض أن يُبيِّن سلطة الحكومة المركزية، الأسيرة بين جماعات سياسية متناحرة بشكل أو بآخر وشبه عسكرية. ولكن هذه الخطوة تهدف أيضًا إلى هدف محدَّد: ففي المنطقة الخضراء تقع مقرَّات السفارات الأجنبية (بما فيها السفارة الأميركية) ومكاتب الحكومة والجيش والبرلمان.
وصدر القرار بعد موافقة البرلمان على حزمة الإصلاحات المقدَّمة من قبل رئيس الوزراء حيدر العبادي، وهو يشمل إغلاق ثلث الوزارات وإقالة العديد من نوَّاب الوزراء ووكلاء الوزراء، وإلغاء أسوأ الأنظمة البيروقراطية في مركز السلطة، بالإضافة إلى المزيد من الشفافية في إدارة سلطة الدولة ومحاربة الفساد وكذلك دعم التحقيقات القضائية.
صحيح أنَّ هذه القرارات شجاعة من دون شكّ، ولكن على الأرجح أنَّ هيكل السلطة الداخلي لن يخضع لكثير من التغيير، لا سيما وأنَّ الأغلبية البرلمانية بنسبة إثنين وخمسين في المائة من المقاعد موجودة لدى الشيعة. بينما يتمتَّع الأكراد بنسبة سبعة عشر في المائة فقط، والسُّنَّة بنسبة واحد وعشرين في المائة من مقاعد البرلمان.
احتجاجات ذات تأثير سياسي
هذه الاحتجاجات الأخيرة في العراق تخفي في داخلها قوة تفجيرية سياسية هائلة - غير أنَّها احتجاجات لم تعِرها وسائل الإعلام الغربية حتى الآن سوى قدر قليل من الاهتمام. فحركة المقاومة هذه الموجودة في العراق حركة شعبية ومناهضة للطائفية. ولكنها مع ذلك تضمُّ عناصر قد يكون لها تأثر تقسيمي:
أولاً: يوجد فيها أنصار الحركة المسلحة التابعة للزعيم الديني الشيعي المعروف مقتدى الصدر ذات السمعة السيئة (من وجهة نظر الاحتلال الأميركي السابق للعراق)، علمًا بأنَّ الصدر قد حشد ألويته في الأسابيع الأخيرة، أي جيش المهدي السابق، الذي أثار الكثير من الاضطرابات إبَّان الاحتلال الأميركي للعراق في عهد ما بعد صدام حسين. وبعد صلاة الجمعة اختلط مؤخراً في بغداد مئات من أنصار حركة مقتدى الصدر المسلحة بين آلاف من المتظاهرين، ورفعوا إلى جانب العلم العراقي الوطني رايات دينية. وفي الحقيقة حاول أنصار هذه الحركة المسلحة الاستحواذ على الاحتجاجات، ولكن تم منع هذه المحاولة حتى ذلك الحين من قبل الحركة الشعبية ونشائطها السياسيين.
وخلال كلمته في النجف في الرابع والعشرين من شهر أغسطس قال مقتدى الصدر: "يجب على جميع الناس وعلى جميع الصدريِّين المشاركة في المظاهرة، في مظاهرات يوم الجمعة في بغداد. ويجب على الصدريِّين أن ينضمُّوا إلى المتظاهرين الآخرين باعتبارهم مجموعة عراقية وطنية واحدة". إنَّ من شأن هيمنته على هذه المظاهرة الحاشدة أن تؤدِّي إلى تعزيز دور أنصار حركة الصدر المسلحة أكثر بآلاف الأعضاء - كما أنَّ ميليشيات الصدر تختلف عن الكثير من الميليشيات الشيعية الأخرى بابتعادها عن القيادة الإيرانية في طهران، التي لا تُخفي مساعيها الهادفة إلى بسط نفوذها السياسي والعسكري على بغداد.
انقسام بين الأحزاب الشيعية
وكذلك تحاول الأحزاب السياسية الشيعية زيادة تأثيرها على حركة الاحتجاجات، في حين أنَّ هذه الأحزاب منقسمة فيما إذا كان يتعيَّن عليها دعم المظاهرات أو إخمادها. وفي كلتا الحالتين الهدف واضح: حيث يسعى التيَّار الشيعي إلى الحيلولة دون التشكيك - من خلال هذه الاحتجاجات - بمصالحه السلطوية الخاصة.
وقد حذَّر مؤخرًا من عواقب هذا التطوُّر أيضًا الزعيم الديني الأكثر تأثيرًا في العراق، آية الله علي السيستاني. ولكن على الرغم من أنَّه يتجنَّب على العموم التصريحات السياسية الرسمية، إلاَّ أنَّ السيستاني قد أعرب في نهاية شهر أغسطس 2015 عن دعمه لجهود رئيس الوزراء حيدر العبادي، وحذَّر من مخاطر محتملة بسبب وجود العديد من دوائر السلطة الداخلية في العراق.
وتوجد في الوقت الراهن في العراق العديد من الجماعات السياسية الهادفة إلى تقويض أسس برنامج إصلاحات حيدر العبادي. وكذلك يحاول الكثيرون الاستفادة من الفوضى الحالية القائمة على خلفية إرهاب تنظيم "داعش"، وتعزيز الطائفية الداخلية الموجودة في البلاد، بالإضافة إلى تقسيم العراق إلى مجموعات عرقية وطوائف.
ما من شكّ في أنَّ هذا سيكون بمصلحة الساعين منذ وقت طويل إلى إنهاء وحدة العراق الوطنية وإنشاء دويلات صغيرة، تكون السيطرة عليها عندئذ أسهل.