العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ

«فئران أمي حصة»... واقع يتسول الحب!

كان مسائي هادئاً، اللهم إلا من نسمات رقيقة تنسل من بين ضجيج الحياة، لم يكن الهواء زاعقاً ولا هامساً بل بين ذاك وذاك. ممتلئة كنت بملائكية صوت فيروز حتى أكاد أسمعها «أؤمن أن القلب المُلقى في الأحزان، يلقى الحنان.. أؤمن أن في صمْت الكون المقفل، منْ يصغي لي».

تنهدت وأنا أتأمل غلاف رفيقة هوايتي «فئران أمي حصة» للكاتب سعود السنعوسي. يومان وأكثر سرقتني هذه الرواية و أخذتني صفحاتها الـ 436 لنزاعاتها ومونولوجاتها الداخلية، انسل في المسافة بين خيالي وواقعي كونكريت بيت حصة المعتق بـالحب.. وبظل السعف الوارف تحت النخلات الثلاث... وبدانتيل فستان فوزية الزهري... وعود فهد وأشرطة عبدالكريم عبدالقادر.

سرد السنعوسي كان خفيفاً على الروح، أصالة مدججة بتأريخ دقيق للأحداث، للمواقف بقسوتها وندوبها وأفراحها. التأريخ عملية ليست يسيرة ولكن السنعوسي طوعها برشاقة نابضة للحد الذي يجعل القارئ يعيش هذه المسافات الزمنية، يغتاظ من قيظها ويرمم عواطفها اليابسة معه، يستلذ بالتشويق في سطورها، ويتناولها منهمكاً وصامتاً وحزيناً... ولا يستعيد قوته إلا مع نهاية الكتاب فيتجدد إيمانه بـأن أية فكرة تخرج من حدود الإنسانية ماهي إلا هرطقات غبية وأوهام باطلة، فإذا كان لا بد من أن يحارب الإنسان أخيه الإنسان فعليه أن لا يتفنن في لعق دمائه وينحاز للدفاع لا للهجوم، للإنصاف لا للانتقام.

وحدها الإنسانية بـلون واحد حين يتمرى بينها مستقيم أو معوج، أو حين يستند تحت ظلها الوارف غفير، ثري أو فقير. وحدها الإنسانية المعذبة بين جبروت قويها وأنين ضعيفها، بين صراخ كبيرها وبكاء صغيرها، بين شوفينية الحاكم وسادية الطاغية وبين ثورة المعدم واستكانة المحكوم. وحدها الإنسانية هي الدمعة الرقراقة من عين الرحمة على منظر بؤس أو مشهد شقاء، وحدها من ترفض أن تكون الفضيلة كدائس تحشر في الأذهان بدلاً من ملكات تصدر عنها اهتزازاً لـلحياة.

وحدها الإنسانية الأقرب إلى نفس الإنسان وأكثر التصاقاً بـروحه، لأنه يبكي آلام من لا يعرفه، وإنْ كان شخصية خيالية في رواية أدبية أو بطل حادثة تاريخية أو أسطورة. وحدها الإنسانية هي التي تقر بأن الحب الناجم عن الإحساس بـالآخر هو التعويض العادل عن كل بشاعات العالم، وبأنها المنفردة بـالعدالة حين تنفصم العروات وتدب العداوات وينخر الحقد الأرواح. الإنسانية هي أول من يشمئز من الكيانات ذات التكوين السلطوي، وهي أولى من تُعنى بـتحرير الأجساد والألباب المصابة بـالشيزوفرينيا والرعونة والكوابيس الفوضوية والاحتقان الفكري والانحرافات والموروثات الجاهلية.

همس لي السنعوسي بنبرة مؤلمة، على لسان إحدى شخصيات الرواية (يموت أحدنا ليعيش الآخر) فجاءت نهاية الرواية تدحض هذا الهمس وتجزم بأن الكراهية موت ينال الجميع ولا يبقي أحداً.

بتول حميد
بتول حميد

العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً