العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ

سيرةُ كتاب: «الهويات القاتلة» لأمين معلوف

كمن يرمي حجراً في بقعة ماء ساكن ليخلف موجات ممتدة، تبدأ من تفسير أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة» لمسألة الهوية على الصعيد الشخصي لتتسع بشمولية تحاكي الإنسانية عامة، متطرقاً لعوامل مهمة تنعكس بشكل محوري حول الهوية وأهم مكوناتها الدين واللغة وتأثير الحداثة والعولمة عليها.

يبدأ الكاتب طرح مسألة الهوية بسرد سريع لسيرته الذاتية تبين انتماء والديه الديني الأرثوذكسي والبروتستانتي وتأثير ذلك على حياته والاستقطابات التي مر بها، إضافة لتمازج هويته الوطنية بين اللبنانية والفرنسية، ويتعمق في مكونات هويته لتظهر حسه الإنساني. وليبين بأن لكل إنسان هوية فريدة لا تشابهها أي هوية أخرى حالها كحال البصمة. إلا أنها في حالة مستمرة من التطور والتغيير الإيجابي أو السلبي كنتائج لحياة الإنسان وما يصادفها من تجارب ومعارف. ذلك التشكيل الواسع لهوية الإنسان من عقيدة ولغة وهوايات وأفكار يجعلها تتشابك مع هويات أخرى في بعض مكوناتها لتكون عامل التقاء أو تنافر بناءً على تكوين الهوية الخاصة بكل إنسان وتقبلها للآخر أو رفضه. فالشخص السوي ذو التنوع الغني بإمكانه أن يشكل جسور تواصل بين البشر بعيداً عن المعتقدات الدينية أو العرقية، فمقياس هذا الإنسان هو تحقيق الكرامة لجميع البشر بعيداً عن أي انتماءات عرقية أو جنسية أو دينية أو مذهبية أو أي تقسيمات تفرضها بعض المراحل التاريخية في حياة البشر. ويسوق الكتاب أمثلة غنية وعديدة متنوعة المصادر من أوروبا وإفريقيا وبلاد العرب. ويصل لنقطة مفادها أن العصبيات هي قنابل موقوتة تنفجر حالما تجد الأرضية الخصبة لذلك، التي قد تكون في أي مكان من العالم دون استثناء.

ينقسم هذا الكتاب إلى أربعة فصول هي «هويتي، انتماءاتي»، «عندما تأتي الحداثة من الآخر»، «زمن القبائل الكونية»، «ترويض الفهد»، «خاتمة الكتاب».

هويتي، انتماءاتي

يحاول الكاتب فهم الأسباب التي تدعو الكثيرين اليوم إلى القتل باسم هوياتهم الدينية أو الإثنية أو القومية أو غيرها. ويسرد أمين معلوف تجربته الشخصية بتناقضاتها الدينية والقومية والعرقية فهو من أم كاثوليكية وأب بروتستانتي، هو لبناني عربي لكنه عاش نصف حياته في فرنسا فهو بالتالي فرنسي. ويتطرق معلوف لخطر الهوية حين تحصر في قوام واحد... أنا عربي أو أنا مسلم إلى آخره... عندها نقوم بإصدار الأحكام على الآخر ببرودة أعصاب، تنتهي أحياناً بسفك الدماء. فنظرتنا في مثل هذه الحالات تسجن الآخرين داخل انتماءات ضيقة، أو أنها تحررهم إن وجدت نقاط التقاء. إن الهوية ليست ثابتة كبطاقة الهوية بل متجددة ومتحولة طيلة حياة الإنسان وتعتمد على تفكيره والبيئة المحيطة به. وقد يتحول البعض لقتلة إن مُست إحدى مكونات هوية جماعته، وينكل بالآخرين وهو على قناعة بأنه يستحق المباركة الإلهية. هناك مستر هايد يرقد في أعماق كل واحد منا، ومن المهم الحيلولة دون توفر الظروف الملائمة لخروج الوحش القابع في قرارة نفوسنا. من المهم احترام الآخر أياً كان وعلى الآخر كذلك احترامنا ليحدث امتزاج حضاري يسهم في رقي البشرية.

عندما تأتي الحداثة من الآخر

يبدأ الكاتب الفقرة بعبارة جميلة وتساؤلات. لماذا كل هذه الأحجبة والأنقبة واللحى الكئيبة ونداءات الموت، لماذا كل المظاهر السلفية والعنف تلك! هل هي من طبيعة هذه المجتمعات وثقافتها ودياناتها؟ هل الإسلام لا ينسجم مع الحرية والديمقراطية! مع حقوق الرجل والمرأة! مع الحداثة!؟ وقد كان الكاتب موضوعياً في الدفاع عن الإسلام والانتقاد، فهو يذكر مقارنات جميلة عن الحضارة الإسلامية من قيم التسامح مع الأديان الأخرى وخصوصاً بحق أهل الذمة، على رغم انتقاده عدم إمكانية تطبيق علاقات الماضي في الزمن الحاضر حيث يسعى البشر لتطبيق المواطنة الحقة بعيداً عن انتماءات أفراد المجتمع الدينية أو العرقية أو أي تصنيفات أخرى. كما يذكر دموية مسيحية القرون الوسطى ووصولها لصيغة أكثر تقبلاً لمتغيرات العصر. إن دراسة سلوكيات الذين يدينون بأي عقيدة دينية أو دنيوية تعكس حقيقة مفادها، أننا غالباً ما نولي الأهمية أكثر مما ينبغي لتأثير الأديان على الشعوب وتاريخها، ولا نولي أهمية لتأثير الشعوب وتاريخها في الأديان. فالمجتمع يصنع الدين الذي بدوره يصنع المجتمع. إن جميع العقائد قد تنحرف عن أهدافها، وتقوم بسفك الدماء من الشيوعية والليبرالية والقومية وكل دين من الديانات وحتى العلمانية، فلا أحد يحتكر التطرف، وبالعكس فالنزعة الإنسانية بالمقابل ليست حكراً على أحد. ويختصر الإيمان، من حيث القيم، بنظر الكاتب في قيمة وحيدة هي كرامة الإنسان. ويسبر الكاتب التاريخ بمقارنة بين الإسلام والمسيحية وصولاً لعصرنا الذي أنتج حضارة عالمية تفرض قيم الحداثة والعولمة بقوة بكل إيجابياتها وسلبياتها في كل دول العالم. ويطرح الكاتب أسئلة معقدة: كيف نخوض الحداثة دون أن نفقد هويتها؟ كيف نستوعب الثقافة الغربية دون التنكر لثقافتنا الخاصة؟ كيف نكتسب مهارة الغرب دون البقاء تحت رحمته؟

ويطرح الكاتب بشكل ناقد تجربة مصطفى كمال أتاتورك وجمال عبدالناصر الذي يعد أبرز الزعامات العربية، التي فشلت على اختلاف أفكارها القومية والشيوعية والاشتراكية ووصلت لطرق مسدودة. ما ساهم في عودة الخطاب الأصولي وانتشار الحجاب واللحى. ويؤكد الكاتب بأن الأصولية لم تكن الخيار العفوي أو الطبيعي أو الفوري للعرب والمسلمين، فقد سدت كل الطرق في وجوههم ما ساهم في عودة السلفية.

زمن القبائل الكونية

يطرح الكاتب في هذا الفصل تأثير الدين وتمسك الكثيرين به على حساب مكونات الهوية الأخرى. ويرد السبب لانهيار العالم الشيوعي بفكره الماركسي الذي أراد إقامة مجتمع راقٍ قائم على العدالة والمساواة وتوزيع الثروات بشكل عادل. إن هذا الفشل أدى لتحول الشباب إلى حركات الإسلام السياسي لإشباع حاجات هويتهم المفقودة والفراغ الروحي ورغبة في التحرر والتمرد على الواقع المرير. ما ساهم في خلق مجموعات متفوقة عددياً تفرض قوانينها على كل فئات الشعب. ويورد الكاتب وجهة نظر المؤرخ البريطاني أرنولد تويني في تقسيم مسار البشرية ففي مراحل ما قبل التاريخ كان تطور الجماعات البشرية بطيئاً ومتقارباً. ومع تسارع وتيرة تطور المعرفة وانتشارها في بقع دون أخرى تعاظم التمايز بين المجتمعات في شتى الميادين وهو الحقبة الثانية. والحقبة الثالثة ونتيجة لتسارع وتيرة تطور المعارف وسرعة انتشارها ستجد المجتمعات البشرية نفسها مع الوقت بأنها أقل تمايزاً. إن ما يميز عصرنا التجانس والتنافر على حدٍ سواء. ويتساءل الكاتب إلى ما سيؤول له الأمر في حال تجاوز الانتماء الديني. والكاتب بهذا الصدد يميز بين الانتماء الديني وضرورة الدين التي لن تنتهي كونها أحد أهم مكونات الهوية. لكنه يحلم بعالم تنفصل فيه الحاجة الروحانية عن الحاجة للانتماء. ويلخص الكاتب قوله في هذا الفصل بأن كلٌ منا مؤتمن على إرثين الأول عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد ومعتقدات شعوبه وطوائفه، والثاني أفقي يأتيه من عصره ومعاصريه وهو الأكثر حسماً.

ترويض الفهد

ينادي الكاتب في هذا الفصل بضرورة استغلال كل عناصر التقدم والتواصل والتكنولوجيا وخصوصاً الإنترنت في تناول لمكوّن الهوية الثاني المهم وهو اللغة، وضرورة احترام اللغة الأم وتعلم اللغات الأخرى لتتمازج الحضارات دون أن تطغى إحداها على الأخرى وما للترجمة من أهمية في تعزيز هذا الجانب. ويتكلم الكاتب عن التجربة اللبنانية وما تطبقه من محاصصة تؤثر سلباً على تطور المجتمع. ويتطرق لتجربة جنوب إفريقيا التي تقوم على منح جميع المواطنين الحقوق نفسها. عنوان هذا الفصل يرد لتفكير الكاتب بوضع عنوان مزدوج لهذه الدراسة: الهويات القاتلة أو ما السبيل لترويض الفهد. لماذا الفهد؟ لأنه يقتل إذا ما تعرض للاضطهاد، ويقتل إذا ما سنحت له الفرصة، والأسوأ هو إطلاق سراحه بعد إصابته، إلا أنه على رغم كل ذلك قابل للترويض.

خاتمة

يجب أن يحظى كل منا بالتشجيع على الاعتزاز بأهمية التنوع الخاص به واعتبار الهوية محصلة لانتماءات متعددة بدلاً من حصرها في انتماء واحد يرفعه إلى مستوى الانتماء الأسمى، ليكون أداة للاستعباد والاستبداد والحرب. ويحلم بيوم يكون كل موطنٍ هو موطنه وكل شعبٍ هو شعبه من خلال حضارة إنسانية مشتركة متمازجة بتنوع عقائدي وفكري ولغوي وعرقي.

ويُنهي الكاتب قوله بأمنية، أن يكتشف حفيده كتابه هذا ذات يوم، فيتصفحه ويقرأ بضع صفحات ثم يُعيده للرف المليء بالغبار من حيث تناوله، مستخفاً ومندهشاً للحاجة لقول هذه الأمور في الزمن الذي عاش فيه جده.

وليد النعيمي
وليد النعيمي

العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً