العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ

رؤية ورؤيا... تقاطع بين العتْمة وتلألؤ الصوت

في «موت طفيف» لأمين صالح...

«أمين صالح... رؤية ورؤيا في تقاطع بين العتمة وتلألؤ الصوت»، أتذكّر كان ذلك الكلام جزءاً من تقديم أول لقاء صحافي مطول أجرته «فضاءات» «الوسط»، مع القاص والروائي والسيناريست أمين صالح، وتحديداً بتاريخ 3 سبتمبر/ أيلول 2009.

مرَّت ست سنوات، والرجل يراكم مشاريعه الإبداعية المدهشة، التي تضيف إلى الغواية الكثير... الكثير. غواية الخروج على أشكالها، وأعني هنا الكتابة. تلك صنمية تخلص منها صالح منذ مشروعه الروائي الأول، في سبعينات القرن الماضي. كان مختلفاً ومؤتلفاً مع الكائنات الغريبة التي قام بتربيتها طوال عقود من عمر هذه المحنة الجميلة: الكتابة.

في اللقاء نفسه، أكد خروجه على تلك الصنمية التي أشرت إليها، بإشارته إلى أنه منذ بداياته تقريباً، لم يكن يميل إلى السرد التقليدي، الكرونولوجي، «حيث الاهتمام بالموضوع والمحتوى على حساب الشكل والنواحي الجمالية، وحيث اللغة موظفة لتوصيل معلومة وليس كطاقة خلاقة».

ونحن بصدد الكتابة هنا «موت طفيف»، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نبرح مساحة الشعر، لأننا أمام إصدار متورط في الشعر من الألِف على الياء، وإن لم يعر اهتماماً إلى التصنيف في هذا الشأن. حتى في أعماله الروائية والقصصية لا يمكنك أن تقف على أمين صالح من دون تلك المساحة الشعرية الحادة والموغلة في الوجع في غالب الأحيان. الشعر: وجع هو الآخر! «كنت أهتم بالسرد الشعري، أو السرد الذي يكتسب جماليته وحيويته وجدّته من اعتماده على الاختزال والتكثيف، على توظيف عناصر الحلم والمخيلة والذاكرة. رواية القصص، بحد ذاتها، لم تكن تثير اهتمامي، بقدر ما كنت أرغب في التعبير عن حالات، أو أسبر علاقات، وفق حساسية تستمد عمقها وحيويتها من المنجزات الحديثة في الأشكال الفنية، ومن الرؤى الشخصية».

يومها كان «موت طفيف» حاضراً بقوة في اللقاء المذكور، وعنه قال: «اقتراب أكثر من بنية القصيدة، تحديداً قصيدة الهايكو لكن دون الالتزام بعناصرها وشروطها. لكن أرجو ألا يُفهم من كلامي أن الانتقائية والقصدية هي التي تحرّك الكتابة عندي، بمعنى المجيء إلى الكتابة وكل شيء، من الفكرة والشكل والتقنية، جاهز لدي ومحدّد بدقة وإحكام. التجربة هي التي تملي اللغة والأسلوب والنوعية».

من الشعر وإليه ذهب ويذهب صالح لا في «موت طفيف» فحسب؛ وإن كان غالباً هنا؛ بل هو ذهابه في الكتابة يجد نفسه عارياً من دون ذخيرة الشعر.

«مرَّ الغريب الأبكم وعلى كتفيه طحالب وزبَد البحر

مضى صوب أشجار اللوز ليكتب وصيته الأخيرة:

خذوني إن متُّ إلى البحر... ولا تدفنوني في هذه

الأرض الواثقة من موتها»...

وفي مساحة الشعر أيضاً، يكاد صالح لا يغادر مساحة السرد وهو في حالات تكثيف لا تعدنا إلا بمزيد من الهزات والصدمات، والمتعة أيضاً. لا يخلوان من ذلك التمازج والاندغام والاستلهام الجميل والواعي في الوقت نفسه.

حتى حضور الغريب؛ سواء كان في الشعر أو السرد، هو بالنسبة إليه تأكيد لحضور الذات؛ وتمسّك بها. وفي الوقت نفسه يذهب برؤيته إلى التذكير بحال الاغتراب الذي يعيشه العالم. يعيشه إنسانه، في هذه المتوالية من الرعب والقلق والحروب والسطوة الفائضة والمريضة.

ويظل مشغولاً بالجهات هو. ليست جهاته فقط ما ينشغل به صالح في جل كتاباته. إنه الانشغال بمركز أي منا وموقعه في هذا العالم الذي يحاصره بالمباغتات والفخاخ. الجهات التي لا تكاد تُرى. وهنا أيضاً بين مقطع وآخر، لا يفسح لنا مجالاً لالتقاط أنفاسنا، فنحن على موعد مع الصدمة التي يحيك لنا متعتها ببراعة، من دون أن تخطر لنا على بال.

«الجهات ليست صديقة المسافر

والهدهد دليل الملوك إلى المتاهة

أحضرت معي كتابين

كتاب البحر وكتاب الريح

يتعادلان في كفتيَّ ميزان لا يغشُّ

أنا ذاهب الآن لأوبِّخ الجهات وأؤرِّخ الغيب

(هكذا قال المخبول الذي لم يذهب معه أحد)»...

بدربة الروائي يدخل صالح السرد في الشعر؛ كي يكون على ارتباط بعالمه الذي ارتبط به، فيترك بعض ملامحه وحضوره، وهو يذهب إلى الشعر. يحضر الشعر في تناوله السردي، كي يتمكن من التقاط التفاصيل بلغة حادة كشفرة؛ قادرة على الذهاب في الرؤيا والتجلي. وهو ما نقف عليه في كثير من مناخات «موت طفيف».

«على عجَل يخرج من المقهى

تاركاً الجريدة والقهوة الباردة على الطاولة

النادل يقترب من الطاولة ذاتها

ما كانت هناك جريدة ولا قهوة باردة

ما كان هناك رجل غادر على عجَل»...

قال ذات لقاء أجريته معه: «أحب أن أنظر إلى الكتابة بوصفها رحلة نحو المجهول. إنك تعرف كيف تبدأ، مع الخطوة الأولى، لكنك لا تعرف في أي محطة ستتوقف، أو في أي موضع ستنتهي بك الرحلة. أنت هنا نقيض الكاتب الآخر: كليّ المعرفة، كليّ الحضور، والذي يحرّك كل الخيوط».

العوالم التي يتحرك فيها صالح على مستويي السرد والشعر لا يخلوان من الغرابة والكوابيس أيضاً. كأنه كاتب الكوابيس في كثير من تجليات تلك الكتابة؛ وكأنه على النقيض أحياناً.

«وحدها الأحصنة

الأحصنة الراكضة في السهوب

بعيون مترعة بالرعب

رأت الحرب قبل اندلاعها بدقائق»...

هو ذاته، تحدث عن عدم تعارض بُنْيَتيْ النصين: الروائي والشعري «بنية النص - القصصي أو الروائي - وهندسته لا تتعارض أو تتنافر مع الحالات الشعرية، ولا تتأثر سلبا بالطاقة الشعرية المتضمنة في هذا النص لأن مثل هذه الطاقة ليست خارجية، ليست دخيلة أو غريبة، بل هي - كما قلت - متجذرة ومتصلة عضويا. وهي لا تؤذي النص السردي إنما تثريه وتعمّقه وتضفي عليه بعدا جماليا فاتنا.

نقف على كثير من مصاديق ذلك، في مناخات «موت طفيف»، بشكل مُعاين وظاهر، ولا يحتاج إلى كثير جهد وفطنة؛ على رغم لغته التي يراها كثيرون ممعنة في غموضها، وهو السؤال الذي تم تكراره مئات المرات في مئات المواضع. وهو يعي؛ وإن لم يعِ القارئ حقيقة أن واحدة من ممارسات السخف في بعض الكتابات العربية؛ أنها لم تكتفِ بالواقع السخيف والمزري الذي يعيشه الإنسان؛ لتقوم تلك النوعية من الكتابة بإعادة استئناف السخف نفسه من خلالها، بحدقة بلهاء بعيداً عمّا وراء كل ذلك.

«زوج وزوجة جالسان متقابلين

وأمامهما، على الطاولة،

ذكرى طفل ميِّت، وحطام حب قديم»...

في اللقاء ذاته تم التعريج على أعمال مهمَّة لصالح، في ما يشبه الاستنطاق. من بين الاستدراج الذي ورد في اللقاء، الاستشهاد بمقول للممثلة الفرنسية الكبيرة كاترين دونوف: «في كل أعمالي حاولت أن أقنع العذاب بأن يكون جميلاً... أعتقد أنني نجحت أحياناً»، ليرد بما هو قريب من ذلك، ولكن بتلك الجرعة من الصدمة التي لا يتخلَّى عنها في مُجمل أعماله. الأعمال الإبداعية هي في نهاية المطاف: صدمة! كان ردُّه «بالنسبة إليَّ، ليس العذاب بل ربما الموت. لقد حاولت في أعمال عديدة أن أضفي على الموت مسحة إنسانية، بأن أجعله يبدو وديعاً، حنوناً، متفهماً، متعاطفاً مع المخلوقات الضعيفة الهشَّة التي يتعيَّن عليه أن يرافقها».

صاحب الرؤية والرؤيا... صاحب الصوت المتلألئ؛ يعرف الهوة السحيقة بين العتمة وضوء بكْر؛ لذا لا يطلع علينا إلا بذلك الضوء، وإن حاصرته الأمكنة والأزمنة المعتمة!

العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً