يحدث كثيراً أن تشعر بأن للملل رائحة. يحدث ذلك حين تجد نفسك في حيِّز لا نهايات له من الفراغ. تظل متسمِّراً، تمارس «بلاهتك» وسذاجتك على مضض. يحتاج أي منا أن يكون ساذجاً في بعض الأوقات، وتلك حاجة تُخرجه من الجاد والرصين الذي يضعه في قالب واحد يمكن النظر إليه من جميع الجوانب، وهو بارد وشاحب ويبعث على الضجر في مستوياته الحرجة.
للملل رائحة لا يقبض عليها إلا الذين لا يدَعونه يتسلَّل إليهم. يمسكون به في الأمكنة والأزمنة التي يشعرون فيها بانقباض في القلب، وتعثُّر في المزاج.
ليس على مستوى الفرد وحده، من يدفع كلفة وضريبة أن يكون مُنتهباً من قبل الملل. علينا أن نعرف أحد مؤشرات التراجع ومن ثم الانهيار على مستوى حتى الحضارات يبدأ بالملل. بالركون أو الهروب من الواقع إلى أشكال من التهتك والانشغال بالملذات في صور وأنماط مقززة ومستفزة؛ وليس ذلك هو موضوع تناول هذه المساحة؛ في حدود الشعرية التي بدأت بها.
لم يتأتَ كل هذا الإنجاز المعرفي والحضاري الذي شهده ويشهده العالم بفعل الملل أو الخضوع له. الأمة المنشغلة بالإنجاز لا وقت لديها للانشغال بالملل. ذلك انشغال يختص به قوم ونوعية من البشر هم على هامش الوجود الحضاري والإنساني، ويتم تفريغ ذلك الملل في كثير من الأحيان، في صور دمار ونسف وخراب، والوصول إلى قناعة - بكل الفائض من الفشل والانحطاط - بضرورة تغيير الصيغة التي عليها العالم!
ثمة من سيجد في هذا العنوان مجالاً حيوياً للتهكم؛ وخصوصاً أولئك الذين يطلعون لك، أو ينتسبون إلى بيئة وذهنية «تفسير الماء بالماء» هل للملل رائحة؟
الرائحة بطبعها محسوسة بأداة معروفة. ولا ينفي وجود الرائحة إذا تعطلت حواس بعضهم أو انتفت أساساً. تظل هناك، مثلها مثل أي واقع قائم. الملل هو الآخر، وبالرائحة التي أصر عليها في هذه المساحة، وقبلها في مساحات أخرى، لا ينتفيان إذا كان الذي يستقبل هذه الكتابة من أنصار - هذه المرة - تهتك على مدار الساعة، أو من أعضاء أندية «المتشائمين» و «المُحبطين»، أولئك الذين يعدُّ الملل بالنسبة لهم بمثابة نزْهة، أو ترويح عن النفس مقارنة بواقع الحال الذي هم عليه.
الرائحة مخلوق. أليس كذلك؟ الملل هو الآخر مخلوق. يخلقه المكان... الزمن، والأهم من كل ذلك، إنه مخلوق سعة حد المجون والتهتك؛ أو حد الفشل أو الخمول الذي يقود إلى الخمود بتعطل ملكات وطاقات وإمكانات الإنسان، إلى درجة اعتياده مع مرور الوقت ألاَّ يرى بأسا في كونه عالة على العالم من حوله. الملل من المحاولة فشل برائحة!
ثم إن أكثر أنواع الروائح ملازمة للإنسان، وأكثر أنواع الملل التصاقاً به، ذلك الذي يكون مبعثه بيئات محفزة عليه، ومنتجة له. أن يملَّ من المواجهة، والمطالبة بحقوقه، والوقوف في وجه التجاوزات، وخصوصاً إذا اتكأ على خبرات عنيفة تطوله في مواجهة محاولاته، مع سمات نفَس قصير في المحاولة، ودخول حسابات وأولويات في واقع متحرك مثل ذاك، والكُلَف المترتبة على المضيّ فيه. تلك روائح مواجهة تتحول إلى أشكال متنوعة من المصادرة والإسكات والإرهاب والقمع، يؤدي - أو ما يُراد من خلال كل ذلك - إلى الدخول في حال توأمة وانسجام وانتهاج لذلك الملل.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4760 - الجمعة 18 سبتمبر 2015م الموافق 04 ذي الحجة 1436هـ