يوهان لودفيج بوركهارت، رحالة ومستشرق سويسري، عاشق لبلاد العرب، يعتبر من أدق وأشمل الذين كتبوا عن جزيرة العرب، ومن أكثرهم إنصافاً وتحريا للحقيقة.
وقالت صحيفة "الاقتصادية" عبر موقعها الإلكتروني إن بوركهارت ولد في لوزان بسويسرا في العام 1784، ودرس في ألمانيا، وغادر إلى إنجلترا في 1806 رافضاً الخدمة العسكرية تحت راية نابليون، ودفعته رغبته في تكريس نفسه للارتياد إلى عرض خدماته على الجمعية الإفريقية البريطانية التي مولت عدداً من البعثات الاستكشافية إلى منطقة النيجر وانتهت هذه الرحلات بهلاك المستكشفين، فقبلت الجمعية عرضه وتعاقدت معه على أن يعمل لحسابها مقابل أجر يومي قدره جنيه واحد.
فأخذ يعد نفسه ودرس اللغة العربية والكيمياء والطب في جامعة كيمبردج، ويتمرن على قطع مسافات طويلة مشياً في الشمس مكشوف الرأس ويفترش الأرض ولا يأكل إلا الخضار ولا يشرب إلا الماء.
وكان بوركهارت يأمل أساساً في الوصول إلى تمبكتو ومنابع نهر النيجر. ولكن رحلاته قادته إلى الشرق الأوسط، حيث اكتشف مدينة البتراء في الأردن ومعبد أبوسمبل في مصر، وعاش ستة أشهر في مكة. عرض بوركهارت خدماته على الجمعية الإفريقية في لندن، وتم الاتفاق معه على أن يحاول الوصول إلى تمبكتو مع قافلة للحج كانت في طريق عودتها من مكة. وبدأ يتهيأ للرحلة بدراسة اللغة العربية والطب والفلك والدين الإسلامي في كمبردج وحلب، حيث تعلم حياة البداوة.
في 14 فبراير/ شباط 1809 أبحر إلى مالطة ومنها إلى حلب متنكراً كتاجر مسلم تحت اسم الشيخ إبراهيم عبدالله. وأفاد من إقامته في حلب ودمشق بالتعمق بدراسة اللغة العربية والقرآن الكريم والفقه والجغرافيا والتاريخ الإسلامي. ثم قام بأعمال ميدانية مهمة تمثلت بالترحال في بادية الشام والإقامة مع البدو ودراسة حياتهم، وكذلك البحث عن الأماكن الأثرية، وكان من أهم إنجازاته اكتشاف البتراء.
وبعد الإقامة في بلاد الشام أكثر من عامين غادرها إلى مصر التي وصلها في سبتمبر/ أيلول 1812، حيث قرر أن ينحدر مع النيل حتى منطقة النوبة، ووصل إلى مسافة 200 ميل جنوب أسوان، واكتشف معبد أبو سنبل ولم يستطع أن يتقدم أكثر فعاد أدراجه. ثم قرر أن يقوم برحلة إلى شبه الجزيرة العربية، خاصة مكة المكرمة، فانضم إلى قافلة حج مؤلفة من نوبيين وسودانيين وسار مع القافلة حتى وصل سواكن، ومنها بحراً إلى جدة فوصلها بعد أسبوعين.
ومكث في الحجاز مدة استغرقت 11 شهراً، وأصيب بالملاريا حال وصوله إلى جدة، وكاد أن يفارق الحياة بسببها، ولم يلبث أن شفي وعاد إلى القاهرة وانشغل بمراجعة مذكراته التي كتبها عن رحلاته تمهيداً لإرسالها للجمعية, وكان يأمل في إنجاز مشروعه الأصلي وهو السفر مع قافلة الحج المقبلة من مكة إلى فزان ومن ثم يحاول اكتشاف منابع نهر النيجر، ولكنه أصيب بالطاعون ووافاه أجله في القاهرة في أكتوبر/ تشرين الأول 1817.
وجاءت نتائج رحلات بوركهارت في أربعة مجلدات، الأول: رحلات في بلاد الشام. الثاني: رحلات في بلاد النوبة. الثالث: ملاحظات عن البدو والوهابيين. الرابع: رحلات في شبه جزيرة العرب. وقد أبدت الجمعية الإفريقية اهتماما بالغا برحلات بوركهارت ونشرتها جميعاً. واحتوت على معلومات جديدة ومتنوعة في الإنثروبولوجيا والآثار والجغرافيا والاقتصاد، خصوصاً وصفه الدقيق للمقدسات في مكة والمدينة ومشاعر الحج. ولم يكتف بما رآه بعينه وسمعه بل راح ينقب في المصادر العربية ليجد تفسيراً لما شاهده وليربط الظواهر بجذورها التاريخية.
وصف بوركهارت الحياة في الحجاز وصفاً دقيقاً، فأعطى معلومات مفصلة قيمة عن المدن ومنازلها ودكاكينها وشوارعها وأسوارها ومصادر المياه فيها ومقابرها. كما وصف تركيب السكان وعاداتهم وتقاليدهم ومهنهم وأساليبهم في الأكل والملبس وأساليب التعامل والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعلاقات الحجاز بأقاليم شبه الجزيرة وبالهند ومصر. ووصف بيت الله الحرام ومشاعر الحج ومسجد الرسول (ص) وأماكن الزيارة في مكة والمدينة، كما وصف الطرق بين المدن بما فيها من محطات استراحة وآبار ووصف الجبال وأنواعها وصخورها والوديان والأشجار، ووصف طرق الحج المصري والشامي واليمني والطريق بين المدينة والقصيم.
نشر بوركهارت الكتاب للمرة الأولى في العام 1829، وقام قبل سنوات عبد العزيز الهلابي وزميله بترجمته إلى العربية، ثم ترجم في العام 2005 مرة أخرى إلى العربية بعناية هتاف عبدالله وصدر عن مؤسسة الانتشار العربي.
يقع الكتاب في 399 صفحة وجاء في تعريف الناشر للكتاب: "هذا الكتاب هو عبارة عن يوميات كتبها الرحالة جون لويس بوركهارت خلال رحلة قام بها إلى الجزيرة العربية في العام 1814 وكانت جدة في حينه بقيادة القائد المصري إبراهيم باشا الذي كان ينوي القضاء على الحركة الوهابية التي انتشرت في الجزيرة العربية. وكما هي العادة في تلك المرحلة فإن الرحلة التي قام بها هذا الرحالة بتكليف من جمعية التعرف على مجاهل إفريقيا واكتشافها، وقدم بوركهارت إلى هذه الجمعية في حينه أدق وأشمل تقرير وصل إلى أوروبا عن الحجاز بما ذلك مدينتا مكة والمدينة. ذلك أن معرفته باللغة العربية وبعادات المسلمين قد مكنته من انتحال صفة المسلم بنجاح، حيث أقام في مكة طوال موسم الحج وأدى الشعائر الواجبة من دون أن يثير أية شكوك حول شخصيته الحقيقية. هذا الكتاب يعتبر من أهم المراجع التاريخية حول الحياة في شبه الجزيرة العربية وعادات سكانها والأحوال السياسية والاجتماعية والدينية التي كانت تتفاعل في تلك المرحلة التاريخية، كما يتضمن فصولا عن نشأة الحركة الوهابية وانعكاساتها على حياة السكان".
والكتاب من المصادر المهمة عن تاريخ ومجتمع الجزيرة العربية عامة والحجاز خاصة، وقد أورد فيه المؤلف معلومات كثيرة وطريفة ونادرة، من ذلك أنه تحدث عن الشريف راجح وأثنى عليه ثم ذكر أنه لم يشاهد رجلا أكثر وسامة من الشريف راجح. كما مدح أسلوب التجارة في مدينة جدة فقال: "وتمارس هنا تجارة الجملة بسهولة وربح أكبر بكثير وبأقل خداع وغش من أي مكان آخر رأيته في الشرق".