سأرجع 147 عاماً خَلَت. وسآخذ يوماً من أيام العام 1868م، وهو (السابع عشر من سبتمبر/ أيلول) الذي يُصادف اليوم. مناسبة هذا الاختيار هو أنه تاريخ ميلاد رجل يهمنا كثيراً كعرب وكمسلمين، بل وكشرقيين. إنه المستشرق الألماني كارل بُروكِلْمَان (C Brockelmann)، المولود في مدينة روستوك الألمانية (Rostock) الواقعة بالقرب من نهر فارنوف، والتي تضم أقدم جامعات الشمال الأوروبي.
أهمية هذا الرجل هو أنه أحد أهم مَنْ كَتَبوا عنا وعن تراثنا بشكل عميق، إلى الحدِّ الذي أصبح المؤلفون العرب والمسلمون يرجعون إلى كتاباته عندما يريدون أن يبحروا في قضايانا التاريخية والدينية والثقافية بل حتى اللغوية، كون بُروكِلْمَان كان يجيد 17 لغة بطلاقة وعُمق من بينها اللغة العربية. بل إنه عُيِّن عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق لإتقانه إياها. لنا أن نتخيَّل!
ولكي نعرف مدى توغُّل هذا المستشرق في تاريخنا وتراثنا يجب أن نعرف أولاً أنه وفي العام 1890م نال درجة الدكتوراه في الفلسفة، وكان موضوع رسالته فيها: صِلة كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير بكتاب أخبار الرسل والملوك للطبري! وعندما يكتب شخص أجنبي عن مثل هذه الموضوعات التخصصية جدّاً فهذا يعني أنه أبحر في آلاف المصادر ذات الصِّلة وأتقن مقاصدها.
وللعلم، فإن بُروكِلْمَان عندما نال الدكتوراه لم يكن عمره يتجاوز 22 عاماً، حيث كان موهوباً جدّاً. وقد وصفه مانفريد فلايشهامر بأنه كان يمتلك «ذاكرة قوية تحفظ كل شيء بعد القراءة الأولى، وبصيرة نافذة ومَيْلاً إلى الترتيب، أمكَنَه فيما يبدو من السيطرة على مواد هائلة دون عناء، وأخيراً القدرة على صوغ أفكاره في يُسر وسرعة». وقد قيل إن بُروكِلْمَان لم يحتَجْ لتعديل مسودَّة كتابه بل قدمه إلى المطبعة بالمسودَّة الأولى.
كَتَبَ كارل بُروكِلْمَان أهم سِفرَيْن له عنا، وهما: تاريخ الأدب العربي، وتاريخ الشعوب الإسلامية، لكن هذا لا يعني أن بقية كتبه ليست مهمَّة، بل إنني أعتقد أن كتابه المسمَّى «الأساس في النحو المقارن للغات السامية» هو من أهم ما كتبه، وخصوصاً أنه يدرس الأصوات في اللغات السامية وأبنية الأسماء والأفعال فيها. لكن في كل الأحوال بقي هذان الكتابان (عن الأدب العربي والمسلمين) محل استفادة الكثير من المؤلفين العرب والمسلمين لأهميتهما وفرادتهما.
وقد ذكر محمود حجازي أن من الأشياء التي نَفَعَ بها بُروكِلْمَان المكتبة العربية هو إحصاؤه مَنْ كتبوا في التأليف اللغوي حيث «رتبهم ترتيباً زمنيّاً ثم مكانيّاً»، وهو ما يُسمَّى في عصرنا بـ الببليوغرافيا. ولم يقتصر عمله فقط على ذكر المؤلفين بل ذكر مؤلفات كل واحد منهم، وسمى مخطوطاتهم وأماكنها وتوثيق طبعاتها، على رغم أنه لم يستطع أن يُحصيها كلها.
هنا وللفائدة، ورؤية تعمُّق بُروكِلْمَان في التراث العربي والإسلامي سأشير إلى بعض ما ذكره في كتبه، واستشهد به مؤلفون آخرون لم يجدوا بدّاً من الرجوع إليه. فعلى سبيل المثال وعندما كان الباحثون يُناقشون اسم مكة، وهل أن هذا الاسم أُخِذَ من لغة الجنوبيين، كون مكة أو مكرب هي كلمة يمنية تتكوّن من: مك، و: رب، (أي بيت الرب) ثم بقلب الميم إلى باء (بكة) على لغة اليمنيين كان بُروكِلْمَان يناقش ذلك بعمق، كما ذكر ذلك محمد بيومي مهران في تاريخ العرب القديم.
وقد تحدث بُروكِلْمَان عن الصراع الذي أفضى لأن يُقصَى الكنعانيون «عن الانتساب إلى سام بن نوح، لأسباب سياسية ودينية» حين كان يُناقش الباحثون إشكالية حاميَّة السبئيين وساميَّتهم وتناقض ذلك وكيفية انتسابهم إلى يقشان ويقطان في آن واحد، وإثبات أن سفر التكوين أرجع الكنعانيين إلى أصولهم الحقيقية وتحريف اليهود لذلك. وكان ذلك بحثاً عميقاً، اضطلع على تفاصيله بُروكِلْمَان، وأدلى فيه وكأنه مُلتهِمٌ لذلك التاريخ من أقصاه إلى أقصاه.
كذلك ناقش مسألة الكتابة والتنقيط في العربية، كي يتوصل إلى تفسيرات قرآنية، ولكيفية ظهور القراءات في مكة والمدينة والبصرة والكوفة فقال: «فتحت الكتابة التي لم تكن قد وَصَلَت بعد إلى درجة الكمال، مجالاً لبعض الاختلاف في القراءة، ولا سيما إذا كانت غير كاملة النقط، ولا مشتملة على رسوم الحركات، فاشتغل القراء على هذا الأساس بتصحيح القراءات واختلافها».
بالتأكيد، ليست الدوافع الدينية والعقائدية لدى بُروكِلْمَان هي ذاتها الموجودة لدى المؤلف المعتقِد بالدِّين الإسلامي، لكننا نتحدث عن شخص أعْجَميٍّ في اللغة، استطاع أن يُوقظ في داخله قدرة على فهم ثلاثة عشر مليون مفردة من غير لغته كي يفهم الدلالات والمقاصد، وتجشّمه عناء البحث في المخطوطات والمصادر القديمة، حين لم تكن هناك وسائل حديثة للبحث والأرشفة.
إننا نتحدث عن هكذا رجل (وأمثاله كأستاذه تيودور نولدكه) كي ندرك أن الغربيين كان لديهم إصرار على توسيع المدى الثقافي لهم، كي يستطيعوا أن يتحسَّسوا موقعهم الحضاري، وأن يفهموا الآخر كي تسهل عليهم معرفته، وإدراك تاريخه وآفاقه، مثلما كنا نتحدث عن جيرتروود بيل، على رغم أن الأخيرة لم تكتب بالعُمق ذاته الذي كَتَبَه بُروكِلْمَان. فهذه المعرفة خير وسيلة للتواصل مع الأغيار. والحقيقة، أن الجامعات العربية والإسلامية وحتى الحكومات، مُطالَبة اليوم بأن تُفرِّغ عدداً من أكاديمييها؛ كي يدرسوا الحضارات والثقافات المحيطة بنا، فتلك أهم من أي شيء آخر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4758 - الأربعاء 16 سبتمبر 2015م الموافق 02 ذي الحجة 1436هـ
معلومات جديدة
مقال جدا مفيد يا أستاذ محمد ..أضفت كالعادة معلومات جديدة كنت أجهلها نشكر لك جدك واجتهادك في التنويع والتثقيف
تحية
جميل طرحك ومفيد
شكرًا يا سيدي
اثبتت بهذا المقال نظريتي بأن ثقافتنا هي ثقافة الموتي. نمجد و نذكر الموتي و ننسي الأحياء الذين بيننا. ننتظر ليموتوا حتي نعظهم و نقدرهم. هل تريد أمثلة. علق علي كلامي و سأكتب لك جدولا من الأسماء.
أين المشكلة
لقد ذكر أفلاطون أستاذه سقراط عندما رحل، وتحدث أرسطو عن أستاذه أفلاطون عندما رحل، وذكر القرآن الكريم قصة نوح وهامان وملوك مصر والعديد من الأمم: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَاب)) فما المشكلة!
رد علي الزائر رقم خمسة
هل ما فعله السلف كان جيدا او مفيدا؟ ان كان الرد ب نعم، فلماذا لن نتقدم؟ لم اسأل لماذا تأخرنا؟. الدول تقدمت بسبب تشجيعها و تقديرها لعلمائها الأحياء. متي نعترف باغلاطنا؟ متي نخطط لاجل التقدم؟ متي و متي. من كثر الغوص في الماضي وصلنا الي حافة عدم الوجود.