العدد 4758 - الأربعاء 16 سبتمبر 2015م الموافق 02 ذي الحجة 1436هـ

القصيمي: أحتجُّ على الغمامة التي تُسقط مطراً على بلد لا يحتاج إليه

في حوار أجراه أدونيس العام 1955... و19 عاماً على رحيله...

عبدالله القصيمي - أدونيس
عبدالله القصيمي - أدونيس

«لا تستطيع أن تمسك به، فهو صراخ يقول كل شيء ولا يقول شيئاً. يخاطب الجميع ولا يخاطب أحداً. إنه الوجه والقفا: ثائر، متلائم، ملتزم وغير ملتزم وفتَّاك». وفي موضوع آخر من التقديم «هكذا تتقاطع في صوته أصداء كثيرة: من هيراقليطس حتى العبثية المعاصرة، مروراً بنيتشه وماركس. لكنه يبقى غريباً، أصيل النبرة والبُعد، نفَّاذ الحضور، حتى ليصعب أن يوصف العربي الذي يقرؤه، بأنه مثقف أو بأنه يحيا على هذه الأرض العربية الرائعة المضطربة، في هذه الحقبة الرائعة المضطربة».

كانت تلك مقدمة لقاء نادر أجراه الشاعر والمفكِّر السوري أدونيس في العام 1955، نشره في «لسان الحال»، اللبنانية، مع المفكِّر السعودي الذي رحل في العام 1996، عبدالله القصيمي (1907 - 1996)، وضمَّنه كتابه «النظام والكلام». 19 عاماً تفصلنا عن رحيله، ومازالت أفكاره مثار جدل وتناول.

يسأله أدونيس عن جوهر اهتمامه كمفكِّر، فيبدأ بالاحتجاج: مفتاحه للدخول إلى تلك الكتابة القلقة. يأتي ضمن رده «أحتجُّ أحياناً على الغمامة التي تُسقط مطراً على بلد لا يحتاج إليه»!

ليس قياساً بزمنه كان جريئاً وصادماً ومتمرداً. من القصيم؛ حيث الدِّين في أقصى درجات النظر إليه وفهمه وممارسته. يظل جريئاً وصادماً ومتمردا حتى وقتنا هذا؛ والأوقات التي لم تأتِ بعد.

لا حدود للتحفظ لديه. لا موضوع يمكن أن يلتمس منه مناورة ما كي يتجاوزه دون أن يسمّيه ويشرّحه، وأحياناً يُعرّي المسكوت عنه، والمصنَّف ضمن الحرام الدنوّ منه، وبالتالي يكون الجرئ على المحاولة أكثر من زنديق، وأهون ما سيناله هو الخروج من ربْقة الدِّين، تمهيداً لإهدار دمه.

وجه المُفارقة

وجه من وجوه المفارقة، أن القصيمي خريج وابن المدرسة الأصولية الإسلامية بامتياز. كان وفياً لها ومنافحاً عنها، ومارس في فترة من تعاطيه الكتابة والنظر «التكفير» بأريحية وبمباركة من «الكبار»؛ لولا أن القاهرة بكل قدرتها على إحداث التوازن والمجال الحيوي فيها، ذلك الذي يتيح أفقاً للمراجعة، لكان اليوم هو أحد منظِّري التكفير الذي اجتاح العالم العربي والإسلامي كالوباء، فذهب في الاتجاه المعاكس، ناقماً على الدِّين بفهم البشر القاصر والبليد والنفعي له. مشمئزاً ومتهكماً على العقل في محيطه، والذي لم يعد عقلاً، بقدر ما هو أداة للتدمير وإشاعة الخوف والظلام في عالمه الخاص والعوالم التي تليه، إذا ما أتيحت له الفرصة. وذلك هو ما حدث!

كان ابن الطائفة وعاش ابناً للعقل. بما له وما عليه، باحثاً عن المشترك لدى الإنسان؛ دونما جرعة اضطراب نفسي مسبق للدخول في علاقة تحترم الحد الأدنى مما يمكن أن يُرى فيه؛ بعيداً عن التصنيف الإثني والمذهبي.

من سؤال أدونيس الأول: ماذا تريد أن تقول؟ وصولاً به إلى نهاية الحوار: هل تعني أن ليس هناك مَخرج؟ لم يكف القصيمي - وكان وقتها في الثامنة والأربعين من عمره - ردَّ بما يشبه التهويمات. تحدث عن رمي نفسه خارج نفسه «في كتاباتي أعتقد أنني أعتدي على الآخرين، وأعتقد أن جميع الكتَّاب هم كذلك، مهما أنكروا». والاعتداء الذي يعنيه يكمن في الاستماتة في تخريب قناعات وثوابت لدى الآخرين، ستسقط أمام العقل في حال إعماله، وتركه يقود حركة الحياة والعلاقات والنظر.

الاحتجاج على الليل والحَشَرَة

في السؤال الذي جاء في مفتتح هذه الكتابة، ذلك الذي وجَّهه أدونيس، ويتعلق بجوهر اهتمامه كمفكِّر، تأخذه رؤية الشاعر الحالم. وإن لم يبرح بناء القصيدة التقليدي؛ لكنها تظل مشحونة بملامح زمنه وليس بمنأى عن قضاياه وما يعترك فيه، يجيب كمفكِّر بلغة الشاعر «أحاول أن أعبِّر عمَّا يضايقني ويثير احتجاجي وينكره منطقي في كل شيء: في الكون أو في النهر، أو في الشمس، أو في الليل، أو في الحشرة، أو في الإنسان العادي الذي يهتف للغباء وللطاغية، أو في الطاغية نفسه، أو في مجتمعاتنا، أو في مجتمعات الآخرين (...). أحتجُّ أحياناً على الغمامة التي تُسقط مطراً على بلد لا يحتاج إليه، وترفض أن تزور بلداً يحتاج إليها، أعظم من احتجاجي على شر طاغية يسحق مجتمعاً أحبه؛ لأن لهذا الطاغية أعذاره في أن يسحق، وأما الغمامة فليس لها عذر في أن توزِّع نفسها توزيعاً سفيهاً». ولا تصدر مثل تلك الحزمة من الاحتجاجات لولا أن الروح قلقة، حتى وهي تنشد مستقرها، تبحث عمَّا يطوِّح بها في عالم البحث والتفكير، والانشداد إلى ذلك القلق، الذي يرى فيه طاقة قادرة على الخلق والابتكار، وإعمال العقل، والكشف عن مكنوناته. ويرى في الاحتجاج صيغة وأسلوب حياة؛ وخصوصاً بالنسبة إلى أولئك الذين جُرِّدوا من أدوات التغيير المباشرة التي تصنع فارقاً في الحياة وصيغها وأساليبها.

الزمن... خارج المكان

تناول حوار أدونيس موضوعات الماضي والحاضر والمستقبل، وهي من الموضوعات التي اشتغل عليها القصيمي في عدد من إصداراته، وإن جاء بعضها مصاغاً بأسلوب تظهيري مثل كتابه «هذا الكون ما ضميره»، و «كبرياء التاريخ في مأزق»، و «هذا الكون ما ضميره»، و «أيها العار إن المجد لك». يكتب عن الزمن غابره وما سيأتي، من غربته الدائمة في عاصمتين عربيتين تنقل بينهما: بيروت والقاهرة. يكتب عن الزمن خارج المكان، ليراه بشكل أكثر وضوحاً وفاعلية، مع مدى مفتوح في تناوله والتعاطي معه.

قاد حوار أدونيس إلى اختيار سؤال يتعلق بالإنسان وعلاقته بمنظومة الزمن، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً «هل تُعْنَى بالماضي أو بالحاضر أو بالمستقبل؟ هل هو الماضي كله؟ كان سؤالاً تالياً، يجيب «أعنى بالماضي للخروج منه وعليه، وأعنى بالحاضر للتعامل معه والاحتجاج عليه، وأعنى بالمستقبل لأنه يخلِّصني من الماضي، ولو وُجد ما يخلِّصني من الماضي والحاضر والمستقبل، لكان هو الأفضل... طبعاً لا أعني الموت أو الانتحار». وفي الشق الثاني من السؤال أوضح في الحوار «لا أعني بالماضي الشمس والقارات والإنسان... ولكنني أعني الصيغ الإنسانية المختلفة التي كنت أقرؤها وأتصوَّرها وأحدِّث عنها وأعانيها، فتسحق منطقي ونفسي وأخلاقي».

كان له تناول للصيغ التي وردت في إجابته، مُحيلاً أدونيس إلى كتابه «هذا الكون، ما ضميره» - كان وقتها تحت الطبع - حيث يمتلئ بالاحتجاجات على الماضي وعلى صِيَغِه، جاءت «بأسلوب أرجو أن يكون عنيفاً جداً، وإن كنت لا أؤمِّل أن يكون ظالماً لتلك الصيغ التي كنت أرفضها؛ لأنه لا يوجد ما يمكن أن يكون ظالماً لها؛ لأنها هي أعلى مستويات الظلم للإنسان».

أؤمن بالإنسان لا بمنطقية وجوده

مساحة من التشخيص حددها القصيمي بخضوع التطور للقوانين والطاقات والضرورات، في تناوله للزمن، الذي رأى أدونيس في جانب منه، أنه يشبه «الموقف الغيبي، الإيماني»، مشيراً إلى رد القصيمي، على الصيغ التي تكتنف النظر إلى الماضي، والتعامل مع الحاضر، تحضيراً للدخول في المستقبل، وهل هي صيغ فنية، إيمانية، ثقافية؟ بحسب سؤال أدونيس، ووجهة نظر القصيمي التي حدَّدها في أن الافضل دائماً يخرج من الأسوأ «والحياة تخرج من المادة، والعبقرية تتولَّد عن الغباء، والحضارة أوجدتها البداوة، ولكن للقفز من الأسوأ إلى الأفضل قوانينه وضروراته، ولهذا فإن القفز دائماً محكوم. محكوم بنفسه ومحكوم بظروفه، وبطاقات القافزين».

ينفي القصيمي ارتهانه إلى الموقف الغيبي، باعتباره غير خاضع للضرورات أو القوانين أو للذاتيات، وإنما فيه قفزات من أعلى. يضيف القصيمي بأنه «يؤمن بالإنسان، لا بمنطقية وجود الإنسان، ولا بمنطقية سلوكه، ولا بمنطقية احتياجاته أو بقائه، بل أؤمن، أو على الأصح، أريد أن ينجو الإنسان من كل الآلام، وأن يمتلك جميع الظروف الملائمة له، لأنه وُجد، وحيث إنه وجد، فأنا أريد أن يسعد... بقدر ما للحشرة أو للحيوان أن يسعد، ولكن شريطة ألاَّ تكون هذه السعادة على حساب حيوان آخر؛ ولاسيما إذا كان هذا الحيوان الآخر هو الإنسان»!

يبدو أن القصيمي يتحدَّث من خارج الزمن، ومن خارج المكان أيضاً. تبدو مساحات كبيرة من إجاباته في الحوار منفصلة، وعلى مبعدة من المنطق الذي نعرف. هل قلتُ المنطق؟ ذلك واحد من الموضوعات التي خصص لها مساحات معتبرة من الاحتجاج؛ سواء في كتبه؛ أو حتى في هذا الحوار.

كيف يمكن للقصيمي أن يكون مفكراً، وبكل هذا التراث الضخم والإنجاز الصادم، أن يذهب عميقاً، ومع سبق الإصرار والترصُّد في نسف قيمة المنطق أو ضرورته، ويريد لاحتجاجاته أن تكون منطقية، تلك التي بدأها بالغمامة، وأنهاها بالحشرة؟!!!

ورْطة الحياة

تناول الحوار موضوع الحياة، والصيغ التي يتعامل بها القصيمي ليكون واحداً من رعاياها الذين يضيفون قيمة إليها. في ثنايا الإجابات ما يكشف أنه يعد الحياة ورطة في صورة من الصور، وذلك كان مفاد سؤال أدونيس. ردَّ بما يشبه الهذيان والمنطق هذه المرة! يعود بنا إلى القصيمي إلى الإنسان/ الحشرة! «إنها (الحياة) ورطة يرفضها منطقي بلا حدود، لأنها تلوثٌ وعجز وضعف وألم. ولكنني لا أستطيع أن أتخلَّص منها بقدْر ما تعجز الحشرة التي أذمُّها بكل لغاتي وبكل أشعاري عن أن ترفض وجودها غير النظيف وغير العظيم. ونحن في خضوعنا لوجودنا حشَريون تماماً. ومهمة منطقنا وتفوُّقنا أن يقوِّي هذا الوجود، وأن يحميه، أي أن يقوِّي ويحمي فينا صفات الحشرات»!

ما ابتدأ به أدونيس من تقديمه للقصيمي في اللقاء موضوع الاستعراض، هو مدخل رحْب فيه الكثير من الدراية حول رجل بمشاريعه المربكة وقتها وحتى اليوم، يمكن أن يكون ختاما لهذه الكتابة، حين اختزله في الآتي: «في الفكر العربي، حدث ومجيء: حدث لأن صوت هذا البدوي القادم من تحت سماء المدينة ومكة، صوت هائل فريد. ومجيء، لأن في هذا الصوت غضب الرؤيا والنبوُّة».

سيجد كُثُر أن الرجل إنما يمارس نوعاً من العبث، وضرباً من الجنون والهذيان الذي له بدايات وليست له نهايات. أجدني أميل إلى جانب من الرؤية تلك،و ليس على إطلاقها!

ضوء

ولد عبدالله القصيمي في العام 1907، وتوفي في 9 يناير/ كانون الثاني 1996. مفكر سعودي يُعتبر من أكثر المفكرين العرب إثارة للجدل بسبب انقلابه من موقع النصير والمدافع عن السلفية إلى الإلحاد. وبسبب مؤلفاته المثيرة للجدل ومن أشهرها «العرب ظاهرة صوتية».

التحق بمدرسة الشيخ علي المحمود، ثم توفي والده العام 1922 فتحرَّر من تلك القيود التي كبل بها وانطلق يواصل تعليمه، فأعجب به التاجر عبدالعزيز الراشد الذي أخذه معه إلى العراق والهند وسورية. تعلَّم القصيمي بدايةً في مدرسة الشيخ أمين الشنقيطي في الزبير، ويذكر يعقوب الرشيد أنه التحق بالمدرسة الرحمانية بالزبير، ثم انتقل إلى الهند ومكث بها عامين تعلم في إحدى المدارس هناك اللغة العربية والأحاديث النبوية وأسس الشريعة الإسلامية، ثم عاد إلى العراق والتحق بالمدرسة الكاظمية ثم انصرف عنها إلى دمشق ثم إلى القاهرة التي شهدت الميلاد الحقيقي للقصيمي.

التحق بجامعة الأزهر العام 1927؛ ولكنه سرعان ما فصل منها بسبب تأليفه لكتاب «البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية» رداً على مقالة عالم الأزهر يوسف الدجوي «التوسُّل وجهالة الوهّابيين» المنشورة في مجلة «نور الإسلام» العام 1931. بعدها قام القصيمي بتأليف عدَّة كتب يهاجم فيها علماء الأزهر، ويدافع عن فكر المذهب السلفي مثل «شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام»،»الفصل الحاسم بين الوهّابيين ومخالفيهم» و «الثورة الوهّابية».

من مؤلفاته: «مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها»، «نقد كتاب حياة محمد لهيكل»، القاهرة، 1935، «الصراع بين الإسلام والوثنية»، «كيف ضلَّ المسلمون»، «هذي هي الأغلال»، «يكذبون كي يروا الله جميلاً»، «العالم ليس عقلاً»، «كبرياء التاريخ في مأزق»، «هذا الكون ما ضميره»، «أيها العار إن المجد لك»، «فرعون يكتب سفْر الخروج»، «الإنسان يعصي... لهذا يصنع الحضارة»، «عاشق لعار التاريخ»، «العرب ظاهرة صوتية»، «الكون يحاكم الإله»، «يا كل العالم لماذا أتيت»؟، «الرسائل المتفجِّرة»، «أيها العقل من رآك»، و «لئلا يعود هارون الرشيد».

العدد 4758 - الأربعاء 16 سبتمبر 2015م الموافق 02 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً