بعث لي أحد الأصدقاء مقطع فيديو لسيّدات مسنّات أجنبيات تحكي كلٌّ منهن عن ماذا ستفعل لو عاد الزمن بها إلى الوراء، قالت إحداهن: «سأمدُّ في قبلة المساء لأطفالي بدلاً من التوبيخ، وحثهم على النوم بسرعة ليستيقظوا مبكرين في اليوم التالي»، وبحسرة مشابهة قالت سيّدة «أتمنى لو أطلت احتضاني لأطفالي أكثر قبل أن يكبروا على الاحتضان». أخرى قالت لو «عاد الزمن وتوافرت كل هذه التكنولوجيا لكان عالماً من المتعة». ووجدت إحداهن أن العودة إلى الماضي في هذا الوقت سيكون فيه الكثير من التحدي والضغط لتعاود كونها أمًّا مثالية، وزوجة مثالية وصديقة مثالية، فيما غضّنت إحداهن وجهها بأسى قائلة: «لو عاد الزمن سأتحرّر من قائمة ما عليَّ فعله، وإنما سأحضّر عوضاً عن ذلك قائمة بالأشياء التي لن أفعلها».
سألت عدداً من أصدقائي والمحيطين بي ممن هم في منتصف العمر عما كانوا سيفعلونه لو عاد بهم الزمن إلى الوراء، فتشابهت الكثير من الإجابات في «البقاء أكثر مع من نحب والتعبير عن حبنا قبل فوات الأوان.
قال أحد الأصدقاء «لو عاد الزمن لقضيت مع والدي ووالدتي وقتاً أطول قبل أن تثقل حركتهما ويصعب خروجهما من البيت».
البعض وجد أنه أضاع فرصاً بالخوف من المغامرة بتغيير أوضاع معينة مستقرّة في العمل والحياة إلى أوضاعٍ أخرى ذات أفق أوسع كانت متاحة في وقت ما. البعض تمنّى أن يكون قد اختار شريكا/ شريكة أكثر توافقاً في التفكير وأسلوب الحياة لتكون حياته أسعد وليكون أكثر إخلاصاً، فيما البعض تمنى ألا يكون قد أقدم على خطوة الزواج؛ لكونه مقيِّداً ويحد من التقدم بسبب المسئوليات. أحدهم قال: «أضعت على الأقل عشر سنوات من عمري في أمورٍ متفرقة ليست ذات فائدة، كان بالإمكان أن أنجز خلالها الكثير».
وفي الوقت الذي كنت أستمع لأقوال السيدات المتحسّرات على ما فاتهن، كانت ابنتي ذات الخمسة عشر عاماً تتمطًى متذمرة بعد يوم دراسي طويل ومتعب بعد الإجازة «كم أتمنى ان أسرّع وتيرة حياتي وأرى نفسي وقد أنهيت مراحل المدرسة والجامعة، أريد أن أجرب الحياة التي ستكون أجمل بعد الدراسة».
وعبثاً حاولت إقناعها بأن أيام الدراسة هي من أحلى السنوات في عمر الإنسان، ففيها يبدأ الطريق بخيال مفتوح على كل الخيارات، وفيها التجارب الإنسانية الأولى، وفيها المسئولية بسيطة ومركّزة على الإنجاز الدراسي، وفيها اكتشاف الذات والقدرات.
أعرف تماماً أن كلامي لن يثني ابنتي عن التذمر والرغبة في القفز سنوات إلى عمر تتخيله أحلى، كما أعرف تمامًا أن كلاًّ منا لو عاد به الزمن فلن يخرج عن خياراته التي اختارها. فخياراتنا تتشكل وفق مزيج خاص بكلٍّ منا من الخبرة، والتكوين الذاتي، والمتاح أمامنا من الفرص، هذا المزيج لا يكف عن إعادة تشكيل نفسه بتراكم خبرات حياتية متنوعة تُكتسب يوميّاً وتعيد تصنيف الأشياء والأشخاص والأولويات في حياتنا. فعندما كانت السيدات المسنّات شابات كان ما فعلنه هو الخيار الأمثل، فالذكريات الجميلة تجعلنا نحنّ إلى العودة إليها وإطالة الزمن فيها، وعندما يسوء الحظ نعتقد أنه كان بإمكاننا تجنّب خياراتنا تلك إلى خيارات أفضل. المحظوظون هم من ينبههم مزيجهم الذاتي في الوقت المناسب إلى أهمية طيّ الأشرعة واستكشاف طرق جديدة خارج مسار التيار، فربما كانت هناك خيارات أخرى موجودة خارج صندوقهم الذي شكّلته أوضاع ليست بالضرورة هي الأفضل.
حصلتُ قبل أيام على هدية ثمينة المعنى، وهي عبارة عن قلادة فضية، صممها فنان كندي من ضمن 300 من طلاسم تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وجد قوالبها الشمعية في أحد المزادات، ولكل منها معنى رمزي لحكمة هي خلاصة تجارب ذلك العصر. هذه القلادة التي صارت هي الأثيرة لديّ، تحمل قطعة شبه مستطيلة مصممة يدويّاً بشكل منبعج تحمل شكل الساعة الرملية بأجنحة كرمز لسرعة مرور الوقت. التعبير اللاتيني لها هوCarpeDiem ومعناه «اغتنم اليوم»، وبحسب «ويكيبيديا» فإن الترجمة المُباشرة قد ظهرت بمعنى «ما سيكون سيكون» لكن قروناً من الاستخدام المختلف والمتنوع لهذه العبارة طوَّرتها وغيّرتها إلى المعنى الحالي الذي يتم تداوله.
اغتنام اليوم، وانتهاز الفرص وفق قدراتنا وطموحاتنا وقيمنا في كل وقت، هو ما يجعلنا ننظر إلى تجربتنا بقدر قليل من الأسف على قدرٍ لم يكن لنا، وبفخر؛ أكبر لأننا فعلنا كل ما كان علينا فعله في وقت ما، لنكون اليوم ما نحن عليه.
مقطع الفيديو المسجل ختمته سيّدة اختصرت تجربتها في هذا المعنى بالقول: «لو عدتُّ شابة فسأجتهد؛ لأمسك بزمام الأمور وأفخر بذلك... سأجتهد لأحيا، لا لأن أعيش فقط».
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 4757 - الثلثاء 15 سبتمبر 2015م الموافق 01 ذي الحجة 1436هـ
لو
قرأت مقالك عدة مرات من الصباح حتى الان (الوقت عصراً) كل مرة اجد اني اغرق بين حروفك انني احلم بأنني أعيش زمنا غير الذي
مررت به. أوافقك ان ما مررنا به كان متوافقاً مع تلك المرحلة. ولكل منا خصوصية حياته وتفاصيله. لكنني تذكرت اني عشت تاريخ مفعما وأكثر نضجا. وأشكر الله انني مررت بمثل ذلك. دمت متألقة صديقتي. امل النعيمي
نظرة جامعة
المقال يعالج جزءا بسيطا من أغلاط البشر. الواقع و الحقيقة هما : البشر لم يعرف حتي الان السبب وراء خلقه و السبب لمغادرته الدنيا عندما يكون خبيرا و مجربا. الواقع هو جهل الانسان و غيظه من التعلم حتي ياتيه الأجل.
أم البنات
أعجبني موضوعك جدا يا زميلة الدراسة ولو عاد بي الزمن لتمنيت أن أعيش ذكريات أيام الدراسة من جديد حيث جمعنا سكن الطالبات وجمعنا الحب دون طائفية ( لا سنية ، لا شيعية ) ليت القلوب والناس ترجع كما كانت قبل دس سموم الطائفية
رائع..
من أجمل ما قرأت..