العدد 4754 - السبت 12 سبتمبر 2015م الموافق 28 ذي القعدة 1436هـ

تقف على الصداقة بين امرأتين... والمدينة التي تُشكِّل الطِبَاع لدى البشر

فيرانتي والجزء الرابع والأخير من «نابولي»... «قصة الطفلة المفقودة»...

بصدور الجزء الرابع والأخير من سلسلة روايات «نابولي»: «قصة الطفلة المفقودة»، للروائية الإيطالية إيلينا فيرانتي، تزداد أهمية هذا الصوت الأوروبي الغامض الذي لم تتحدَّد هويته؛ أو لِنقُل، لا جزم قاطعاً بهويتها الحقيقية. هل هو اسم مستعار لأحد مؤسسي دار النشر التي تطبع رواياتها؟ هل هو زوجها؟ ربما. تكهُّنات رائجة بشأن هوية فيرانتي؛ لكن يمكن الوقوف على رؤية مُغايرة تذهب في الاتجاه المعاكس، وردت في مقال لجيمس وود في صحيفة «نيويوركر»، أوضح فيه، بأنها «في مراسلاتها الخطيَّة مع الصحافيين أشارت فيرانتي إلى نفسها كأمٍّ؛ ما يعني أنها في الواقع امرأة».

في هذا الجزء من عملها الملحمي الذي يرصد الحياة في نابولي، لا تبرح فيرانتي المدينة؛ بل ترصدها هذه المرة من خلال معالجتها لقيمة الصداقة بين امرأتين، وقوة تلك العلاقة: لونا، ولِيلى، اللتين تنتميان ولادة وترعرعاً إلى أحد الأحياء الفقيرة والمنسية في نابولي؛ فيما الزمن يتحدَّد بعد الحرب العالمية الثانية.

الموضوعات الرئيسية لروايات فيرانتي عموما تتضمَّن: الصداقة لدى النساء وشكل حياتهن من خلال الوسط الاجتماعي، الغيرة الجنسية والفكرية والمنافسة التي تحدث في الصداقات النسائية، وتناقض الإناث حول الأدوار التي يؤديها الأبناء والأمهات، وانبعاث الأطفال الأذكياء من البيئات المحلية والاجتماعية العنيفة، الصراع الطبقي، دور الأدب والمسئولية الاجتماعية للكاتب وسط الاضطرابات الاجتماعية، وضمن الحركات الاحتجاجية، والظروف المتغيِّرة للمرأة في سبعينات القرن الماضي، والحوسبة في وقت مبكر، وإضرابات المصانع الإيطالية فترة السبعينات من القرن الماضي.

تناقض... انسجام

تقارير وإضاءات مختلفة تتناولها الكتابة هنا؛ استنادا في جانب منها إلى ما كتبه جون دوميني، بتاريخ 26 أغسطس/آب 2015، في صحيفة «واشنطن بوست».

بين لونا التي تجمع بين الجمال الأخَّاذ والثقافة، ولِيلى، التي لم تحظَ بجمال ملفت ويعتدُّ به، ولا ثقافة تُذكر؛ علاوة على خبث وشراسة. وسط مثل ذلك التناقض؛ ثمة إيحاء بإكمال بعضهما. في تصاعد الأحداث نكتشف شيئاً من ذلك، كما نكتشف النقيض في الوقت نفسه.

الأولى تكمل دراستها إلى أن توصلها جهودها لتكون أستاذة جامعية. الثانية تترك الدراسة، وفي سن السادسة عشرة، تقترن برجل ثري ينتمي إلى عصابات المافيا. تقودها تلك العلاقة إلى نهاية بائسة حين يتركها بعد أن يتعرَّف على فتاة تصغرها سناً؛ لتعود إلى حيث تنتمي: إلى الطبقة العاملة.

يتجلَّى من قوة العلاقة بين المرأتين عدم الانسجام في مفاصل من حياتهما، ومفترقات أيضاً. ربما هو انعدام الانسجام في شكلهما والسلوك كذلك.

في الشخصيتين نقف على تعبير كل منهما عن نفسها. عن الظروف التي تحكَّمت في جزء كبير من مسار حياتهما. هنالك تعبير عن الأنوثة... الصدمات... الجراح والإحباط أيضاً؛ حيث تأخذنا فيرانتي إلى تلك البراعة في دمج الرومانسية بالخيبة. السطوة تكون للمكان/ المدينة بقدرتها على تشكيل بشرها بطريقة أو أخرى. أطلق جون دوميني على رواياتها: «كتابة المدينة»، بذلك الاشتغال الدقيق، والقدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة والكبيرة، تلك التي تشكِّل إما حيوية الإنسان، وإما خموده، وانكفاءه؛ وإن كانت روح المدينة - كما يبدو - لا تتجلى إلا عبر تلك الشخصيات المتناقضة؛ كما هو حال التناقض مع المدينة نفسها. اللعب على تلك الثنائية: الإنسان/ المكان، هو ما تبرع فيه فيرانتي، بخبرات معمَّقة استمدَّتها من الأجزاء الثلاثة من سلسلة رواياتها.

كتاب المدينة

دوميني يأخذنا في تقرير «واشنطن بوست» إلى عوالم الشخصيتين. يضيء أعمال فيرانتي وَإِنْ بشكل عابر. الرواية الرابعة من سلسلة «نابولي» (ترجمت الرواية الأولى من السلسلة «الصديقة الرائعة» إلى الانجليزية العام 2012)، لها ارتباط بمسقط رأس فيرانتي: مدينة نابولي. (ذلك هو مكان ولادتها، وهو واحد من عدد قليل من الحقائق التي نعرفها عن هذه الروائية الغامضة، التي تكتب باسم مستعار).

موضحاً دوميني بأنه حتى عندما «بدأتُ قراءة قصة لينا ولِيلى باللغة الإيطالية، تعرَّفت على الجانب الخاص بهما من خلال المدينة التي أقامتا فيها. والدي من نابولي. عشْت هناك حركية وخمود السنوات، وأظل مُعجباً بأسلوب فيرانتي وطريقتها في تصوير المكان». الأماكن المتدهورة؛ بفعل انعدام الأمان والخوف، وأحياناً، الألفة والارتياح.

«تترك مدينة نابولي طابعاً متأصِّلاً لدى لينا ولِيلى، الصديقتين مدى الحياة، اللتين تتوحّدان وتدفعان بهذه السلسلة من الرواية نحو التألُّق. لكن مع روايتها الجديدة (حكاية الطفل المفقود)، كتبت فيرانتي ما أسمِّيه (كتاب المدينة)، حكاية مُلمّة ومعقدة؛ كونها تحيط بالمدينة الرئيسية بشكل كامل، وتمسُّ أدق تفاصيلها. اتساع الرؤية يجعل هذا الجزء النهائي من السلسلة؛ وكأنه الجزء الأساسي والجوهري».

القصة الرئيسية في «حكاية الطفلة المفقودة» تذهب بعيداً في تناولها العديد من الطبقات، من بينها تلك التي تبدو ظاهرياً منتمية إلى البالغين والكبار، بينما الفعلي منها يأخذ بنا إلى «نهاية طفولتها». «استخدمت تلك العبارة في إشارة إلى لِيلى، ولكنها تنطبق أيضاً على العمل الملفت في الأجزاء الأربعة من السلسلة.

غياب الحبِّ... الضلال

يضيف دوميني «يبدو أنها ممسكة بتفاصيل الحيِّ الذي كانت تقطنه؛ على رغم أنها لا تتمكَّن من الإسهاب وإطالة التفكير فيه. تختصر ذلك بتكثيف ظاهر: «امرأة من دون حبٍّ أصولها ضالَّة».

الرواية في جزئها الرابع، تأخذنا إلى امرأة وهي في الستينات من عمرها؛ وهذا الجزء، لا يتطلَّب منا إحاطة بالأجزاء الثلاثة السابقة من السلسلة (وتشمل قائمة من الشخصيات الفاعلة). وحتى القرَّاء الذين قُدِّر لهم أن يعيشوا لزمن طويل بما فيه الكفاية، ولم يسمعوا أبداً بمدينة نابولي، سيُومئون بتعاطف حزين، تماماً مثل شخص يبدو على قمَّة العالم يخاطر بكل شيء من أجل حبيب سابق.

في إيطاليا، كان للانحلال والفساد دور في الأحداث السياسية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، واستطاعت المترجمة آن غولدشتاين تجسيد طريقة الكاتبة وأسلوبها في «تحويل الأحداث الخاصة الصغيرة إلى المسار العام في التفكير» الضرر النفسي من شراسة لِيلى، واحد من الحالات المُذهلة في الرواية، والتي تكشف عن نفسها خلال زلزال نابولي.

ضمن ما كتب عن أعمال فيرانتي، ونشرتها على مدونتها «هنا ملحمة رائعة عن امرأتين، الرائعة، المولعة بالكُتب إيلينا، والشرسة الحادَّة، ولِيلى، تلك التي لا يمكن احتواؤها. كلاهما الآن بالغتان؛ وقد بذلتا الكثير سعياً إلى الوقوف على الاكتشافات العظيمة في الحياة، وعانتا من تقلُّبات الدهر، والإمعان في الخسارات، تلك التي لم تحل دون أن تكون الصداقة بينهما هي مركز الجاذبية في حياتهما.

ناضلت المرأتان في سبيل الهروب من الحي الذي نشأتا فيه، والذي كان مطابقاً للسجن، بالعنف، وقائمة طويلة من المحرَّمات.

اكتشاف الأسرار الجديدة

لم يعد بالإمكان وضع حد لسلوك وطباع لِيلى أو السيطرة عليها، وصارت ضمن الذين لا يمكن نسيانهم! وعلى خلفية نابولي؛ حيث هي بكل ذلك المدى من الإغراء فيها تظل محفوفة بالمخاطر؛ فيما العالم يشهد تغيُّراً تاريخياً، هنالك قصة صداقة مدى الحياة تُروى بصدق وتألُّق لا مثيل لهما. وتشكّل الأربعة مجلدات في هذه السلسلة قصة طويلة ورائعة ستدفع القرّاء بكل المناخات والشخصيات التي فيها إلى العودة إليها مراراً وتكراراً، ومع كل عودة لها سيتم اكتشاف الكثير من الأسرار الجديدة.

وعودة إلى مسح بعض ما كُتب عن فيرانتي، في عدد من الصحف، والمسار الذي اختطته لنفسها عبر سلسلة روايات «نابولي»، نشرته فيرانتي على مدونتها التي تحمل اسمها، جاء في بعض منه «لا شيء تماماً مثل هَذَا تم نشره من قبل»؛ بحسب ما كتبت صحيفة «الغارديان» البريطانية عن السلسلة في العام 2014، تناولا لأعمالها، وتحديداً الكتاب الأول في السلسلة «الصديقة الرائعة»؛ إذ كانت على قائمة «نيويورك تايمز» لأكثر الكتب مبيعاً. «أولئك الذين يغادرون وهؤلاء الذين يبقون»، كانت الأكثر مبيعاً على قائمة «التايمز»، والكتاب الأبرز للعام، وأفضل كتاب للعام 2014 لخمسة وعشرين مرة؛ بما في ذلك ملحق «التايمز» الأدبي، «الغارديان»، «سان فرانسيسكو كرونيكل»، «ذي نيو ستاتسمان»، «سليت»، «ديلي بيست»، «وول ستريت جورنال»، «فوغ»، و «بوسطن غلوب»؛ فيما يُعطي الجزء الرابع والأخير في السلسلة تحققاً من صحة رأي «نيويورك تايمز بوك ريفيو» بشأن إيلينا فيرانتي، بأنها «واحدة من الروائيين الكبار في عصرنا».

ألا تستطيع المرأة

أن تكتب بشكل جيّد؟

للأكاديمية والمترجمة والناقدة الإيطالية إيزابيللا كاميرا، مقالة/ شهادة في هذا السياق، نشرتها في مجلة «الدوحة» العدد الرابع والتسعين، لشهر أغسطس 2015، تحت عنوان «لغز الكاتبة المجهولة»، مليئة بالدراية عن أعمال فيرانتي؛ تناولاً وتشريحاً للدقيق منها؛ لكن في ما يتعلق بغموض هويتها؛ وحقيقة اسمها، تطرح إيزابيلا رؤية مغايرة هنا تتصل بقيمة ما نستقبله من أعمال إبداعية، بغضِّ النظر عمَّن يقف وراءها. تكتب كاميرا «الحقيقة المؤكَّدة أن افتراض كونها رجلاً متخفّياً يثير بعض الانزعاج لدينا، فلماذا لا نفكِّر في أنها امرأة؟ هل الرجل هو، فقط، الذي يُمكن أن يكون كاتباً عظيماً؟ ألا تستطيع المرأة أن تكتب بشكل جيّد؟ ومع ذلك، فمن خلال القليل الذي نعرفه عن الكاتبة، يبدو اختيار الاسم المستعار تكريماً لروائية إيطالية عظيمة هي إلسا مورانتي، التي يتوافق اسمها في جَرْسه وإيقاعه مع اسم إلينا فيرانتي، وأيضاً لأنه يبدو أنها تستلهمها جزئياً، بل وينظر إليها العديد من النقّاد على أنها مَثَلها الأعلى، ومعلِّمها الأوّل».

ولعل إيزابيلا استمدَّت تلك الرؤية من كتابة فيرانتي نفسها التي أشارت فيها إلى «أن هويتي وجنسي تشير إليها أعمالي، وعلى مدى عشرين سنة أردت فقط النأي بنفسي عن مؤلفاتي».

ضوء يظلُّ غامضاً

يذكر، أن «إيلينا فيرانتي»، اسم مستعار لروائية إيطالية، لا تُعرف هويتها الحقيقية؛ وعلى رغم ذلك بشَّرت بروائية إيطالية مهمة. أبقتْ هويتها سرية منذ نشر أول رواية لها في العام 1992.

لها ست روايات، أكثرها شهرة «أيام الهجْر»، الصادرة في العام 2002، وفاقت مبيعاتها 100 ألف نسخة وترجمت إلى أربع عشر لغة عالمية، وتدور قصتها حول سيدة متزوجة وأم لطفل، تُصاب بصدمة هجر زوجها لها، دون مقدمات. تتضح لها أكثر من ظلمة وما يشبه الهاوية في ظل مصير مجهول لا أفق يدل على الخلاص منه. يضطر ب كل شيء في حياتها. أول ذلك النظام... أيقاع الحياة... لحظات الفرح ولو كانت شحيحة لا تعرف طريقها إليها. الرواية ترجمت إلى العربية وحملت عنوان «أيام الهجران»، فيما الأدق «الهجْر»، إذا ما عرفنا أن الهجْر نوعان: ظاهر وباطنٌ، والثاني هو ما يرتبط بالقلب، فيكتنفه بغْض، وبتتبُّع الرواية نحن أمام النوعين تماماً.

تتألَّف السلسلة من: «الصديقة الرائعة»، «قصة اسم جديد» (2013)، «أولئك الذين يغادرون وهؤلاء الذين يبقون» (2014)، و «حكاية الطفلة المفقودة»، والتي رشِّحت لأهم جائزة أدبية إيطالية (ستريجا).

تحوَّلت روايتان لفيرانتي إلى السينما. أصبحت رواية «الحب المتحرش»، فيلماً روائياً طويلاً اقتبسه المخرج ماريو مارتون، في حين أصبحت رواية «أيام الهجر» فيلماً يحمل العنوان نفسه، وتم إخراجه من قبل روبرتو فاينسا. في كتابها غير الخيالي «شظايا» تتناول فيرانتي تجربتها ككاتبة. وترى أن «الكتب، بمجرد كتابتها، ليست بحاجة لأصحابها».

في وصف مدينتها نابولي ثمة مساحة شعرية مكتنزة في ما كتبت؛ فيها خليط من الخيبة والاعتزاز في الوقت نفسه «إنها جزء من بلد استثنائي، أصبح عادياً تماماً بما يبدو عليه من فوضى مستمرة بين الشرعية واللاشرعية، بين المصلحة العامة والمصلحة الشخصية... ونابولي هي الأفضل والأسوأ في إيطاليا والعالم كله».

بقي القول إن مجلّة «فورين بوليسي»، أدرجت اسمها ضمن قائمة المئة مفكِّر الأكثر تأثيراً في العالم، في العام 2014.

العدد 4754 - السبت 12 سبتمبر 2015م الموافق 28 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً