العدد 4753 - الجمعة 11 سبتمبر 2015م الموافق 27 ذي القعدة 1436هـ

فيلم «Trash»: حين يجتمع الفقر والطفولة والتحدي

تأخذ الدراما الاجتماعية أشكالاً مختلفةً في طرحها لواقعٍ معين، فتارةً يكون عبر التشويق والإثارة، وتارةً أخرى عبر التراجيديا والنهايات المحزنة أوالسعيدة بحسب تصاعد القصة والنمطين المكاني والزماني. أما في فيلم «Trash» أو القمامة، فإنه كان مزيجاً بين هذه الأنماط السينمائية التي أحاطها المخرج أحياناً بالغموض لإشراك المشاهد في تحليل الأحداث وفقاً لرؤيته، تماماً كلوحة الفنان التي يعرضها أمام الجمهور ولكلٍ الحق في فهمها كيفما يشاء.

وما يجعل هذا الفيلم مميزاً، هو أخذه أكبر دولةٍ في أميركا اللاتينية، وهي البرازيل، ميداناً لأحداثه، حيث استوحى مخرجه الإنجليزي ستيفن والدري إياها من رواية الكاتب الإنجليزي أندي موليجان الصادرة في أواخر عام 2010.

تتمحور فكرة الفيلم ذات الإسقاطات المتشعبة حول محفظة خوسيه أنجيلو، الرجل الذي يمثل الذراع الأيمن لسانتوس، أحد السياسيين المتنفذين، والذي يتوق لتعيينه عمدةً للمدينة، فيعقدُ اجتماعاته بسريةٍ تامةٍ، معتمداً على أنجيلو لحفظ جميع التحويلات والمعاملات المالية في دفترٍ يحوي أسرار علاقاتهِ المريبة.

أما قلب القصة التي تنفجر منه الأحداث فهو مكب النفايات الضخم، حيث يوجد ثلاثة صبيةٍ بالكاد بلغوا الحلم، يعملون هناك قرب حيهم الفقير الذي تتوسطه كنيسةٌ يشرف عليها الأب جولي، الرجل الذي لا يبارح كأسته، ومعه فتاةٌ أميركيةٌ متطوعة، أوليفيا، التي تقوم بتعليم الإنجليزية لأبناء الحي.

بداية يقوم أنجيلو بسرقة جزءٍ من أموال سانتوس ومعها دفتره الخاص، فيقوم بنقلها لتابوتٍ يضع عليه اسم ابنته الصغيرة بيا. ولأنه على يقينٍ من ملاحقته، يقوم أنجيلو بكتابة شفرةٍ رقميةٍ للإرشاد إلى موقع التابوت ورسالةً موجهةً لرجلٍ كهلٍ لم تتم الإضاءة على شخصيته إلا بشكلٍ سريعٍ عندما تم إظهاره على أنه قريبه، في زنزانةٍ مكتظة أودعوه بها نتيجة محاربته للفساد.

في المقبرة، يوضع التابوت ويتم إغلاقه ممهوراً باسم بيا، لكن أنجيلو لا يبرح حتى يتم اقتحام شقته في المجمع السكني الضخم حيث يقطن، فيفرّ هارباً، ثم يُحاصر في ممرٍ طويلٍ ينتهي بشرفةٍ ما يجبره على الاستسلام، فيقوم برمي محفظته التي تسقط فوق شاحنة نفاياتٍ في طريقها للمكبّ الذي يعمل فيه ثلاثة صبية: رفائيل، جاردو، وراتو.

وبعد أن يُقبض على أنجيلو ويُقتل نتيجة التعذيب، يعثر الطفل رفائيل على المحفظة في القمامة المنقولة للتو، وذلك قبل لحظاتٍ من هرع الضابط فريدريكو إلى المكب بحثاً عنها، فيستجوب الأطفال ويشك في رفائيل وصديقه جاردو بالذات!

يقوم الضابط فيما بعد بالإعلان عن هديةٍ لمن يعثر على المحفظة، لكن الأطفال يصرون على تحديهم للكبار، هذا التحدي الذي يستبطن على ما يبدو شعوراً متجذراً بالغبن، فتتصاعد الأحداث وتتوالى عندما يعثرون على مفتاحٍ لصندوقٍ بريديٍ يقومون بالسفر إلى مكانه فلا يعثرون إلا على رسالةٍ موجهةٍ لقريب أنجيلو المسجون.

يتغيب الصبية عن العمل، فيتعمق شك الضابط، وخلسةً يتم اختطاف رفائيل وتعذيبه لانتزاع اعترافه عن مصير المحفظة التي لا تحتوي على أي شيء ذي قيمةٍ فيسأله فريدريكو عن رغبته بمعرفة من هو خوسيه أنجيلو، بينما يبدو رفائيل جاثياً على ركبيته ووجهه ملطخٌ بالدم فيراه الضابط يتمتم ثم ينبس في أذنه بدعاءٍ ببراءةٍ ووداعة، لكنه في المقابل يأمر الشرطيين اللذين معه بالإجهاز على رفائيل الذي ينجو بعد تعمد أحدهم تحاشي إصابته بالطلق الناري الذي صُوّبَ إلى جانبه مباشرةً.

وهنا يأتي الدور على أوليفيا، البنت الأميركية التي يخشاها ويحترمها في الوقت ذاته المسئولون لجنسيتها، فيخبرها الأطفال عن المحفظة وما وراءها، لتقوم بتصوير شهادتهم على الأحداث في مقاطع تتخلل الفيلم، ثم تسافر هي وجاردو للسجن لإيصال الرسالة لقريب أنجيلو، حيث تلا عليه مضمون الرسالة عن ظهر قلب، ما دعاه للاطمئنان لصدقهم والطلب منهم أن يأتوا في الغد ليأخذوا ما أسماه بالإنجيل الذي سيفكّون من خلاله شفرة أنجيلو.

لم يكن إخراج الكتاب من السجن سهلاً البتة، فقد اضطر الثلاثة لسرقة مبلغٍ من الأب جولي لرشوة الشرطي الذي وشى بهم هو نفسه، فأعقبت ذلك ملاحقاتٌ حثيثةٌ من قبل الضابط فريدريكو استدعت اقتحام أحد الأحياء المكتظة حيث اختبأوا في إحدى الغرف المهجورة، وبجهدٍ بالغٍ استطاعوا فك الشفرة التي لم تكن سوى إشارةٍ إلى قبر «بيا»، ونقشوا مفتاحها على الجدار.

المثير أن الضابط فريدريكو فطن إلى المكان المقصود بعد وصوله للغرفة التي اختبأ فيها الثلاثة وقراءته للشفرة المنقوشة، فذهب بنفسه للمقبرة ليعثر على جاردو وراتو ويأخذهم كرهائن تحت تهديد السلاح، فيما كان رفائيل وحيداً يجهد في العثور على قبر بيا فينالُ ذلك، ثم يبحث عن رفيقيه اللذين يلقاهما تحت رحمة مسدس فريدريكو الذي يجبره على نبش القبر، فيتضح أن بداخله فعلاً أموال ودفتر سانتوس.

تخرج بيا وكأنها قادمةٌ من عالم الموتى، والحقيقة أنها كانت مختبئةً طوال ذلك الوقت حيث أمرها أبوها، قرب قبرها، ويكون دورها مفصلياً عندما ترمي الضابط بحجرٍ فوق رأسه فينجو الثلاثة الذين سيصطحبونها معهم وهم يحملون أموال سانتوس ويغدقونها على أنفسهم في السفر إلى أحد الشواطئ وقضاء وقتٍ ممتع.

في الجانب الآخر، كانت أوليفيا تجلس أمام حاسوبها بالقرب من الأب جولي وهي تشير لشريحة الذاكرة التي تحوي المقاطع المصورة قائلةً: هنا الثورة.

يقوم الأب جولي رغم تردده في البداية ومعه أوليفيا بنشر شهادات الصبية عبر الإنترنت، وسرعان ما يصل ذلك إلى كبرى القنوات الفضائية العالمية فتشتعل الثورة في الشارع حتى تطيح بسانتوس، ويصبح الثلاثة أيقونة شعبية، فيرفع الجميع صورهم مطالبين بالكشف عن مصيرهم الغامض، في الوقت الذي هم يستجمّون فيه عند أحد الشواطئ النائية.

يؤخذ على الفيلم نهايته التي تنحو نحو خواتيمها الكلاسيكية، فضلاً عن بعض أحداثه وشخوصه التي يعجز المتلقي عن تفسيرها أو سبر ما ورائياتها، وهذا ما يوسع النقاش بشأن الفروقات الجوهرية بين الرواية المقروءة وشكلها السينمائي، ويعيد طرح الفكرة من الأساس في كيفية قولبة الرواية الطويلة والتي تحتوي على أبعادٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ كثيرة، إلى فيلمٍ ينتهي في ظرف ساعةٍ أو ساعتين، وهذا فنٌ جديدٌ لابد وأن له روّاده الذين يسعون لتطويره حتى يصبح أكثر فعاليةً ومرونة.

يستحق هذا الفيلم الحائز على جائزة مهرجان روما للأفلام (2014)، والمرشح لجوائز أخرى إنزال القبعة له إعجاباً، بدءاً بالسيناريو المحكم والإخراج الرائع، رغم الغموض الذي شاب بعض شخصياته وأحداثه وإن كان جميلاً تارةً وغير مبررٍ في تارةٍ أخرى، لكنه نجح في الإضاءة على شريحةٍ اجتماعيةٍ كبيرةٍ شاهدنا غضبها في شوارع البرازيل إبان كأس العالم في 2014، وهو بكل تأكيد نجح في نقلها من غير رتوشٍ بدءاً من إنسانها إلى بيئتها فواقعها المرير الذي يوجد فيه آلاف الأطفال المعذبين من أمثال رفائيل وجاردو وراتو.

العدد 4753 - الجمعة 11 سبتمبر 2015م الموافق 27 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً