كم أنتَ رائع يا تيروهيكو واكاياما! أعجبني جِدُّك وتحصيلك، والأكثر أعجبني فيك أنك تؤمن بنسبية الأشياء، وبالتالي فأنتَ حكيم. ألم يقل ذلك العالِم الإنجليزي وليم رالف إنغ بأن «الحكيم مَنْ يعرف القيمة النسبية للأشياء»؟ إذاً أنتَ كذلك يا واكاياما. ولكن ما هي القصة، وما مدعاة ذلك القول؟! هل من توضيح؟
القصة أيها الأحبَّة هو أن تيروهيكو واكاياما وهو عالِم ياباني بجامعة يامانتشي في الطب الحيوي قدَّم دراسة جديدة من اجتراح أفكاره وتجاربه «لإعادة برمجة خلايا حيوانية ناضجة إلى حالة شبه جنينية تتيح لها توليد أنواع عديدة من الأنسجة».
كما أن الدراسة بشَّرت «باحتمال إعادة برمجة الخلايا البشرية في المستقبل ببساطة وبتكلفة زهيدة إلى خلايا تشبه الحالة الجنينية مما يوحي بطريقة بسيطة لاستبدال الخلايا التالفة أو استنبات أعضاء جديدة للمرضى والمصابين» كما جاء في نص الخبر.
وبعد أن حَظِيَت دراسته بإشادة كبيرة، حين اعتُبِرَت «فتحاً يمكن أن يُبشِّر بعهد جديد في الطب الحيوي، وبتغطية واسعة في اليابان وأنحاء العالم عند نشره في دورية نيتشر العلمية الشهيرة» كما وُصِفت، جاء علماء آخرون وشكَّكوا في نتائج البحث الذي قدمه الرجل.
قالوا: «ربما تكون هناك مشكلات تتعلق ببياناته وصوره». متحدث باسم دورية نيتشر المرموقة والتي نشرت البحث وقرأه المتخصصون في أنحاء العالم قال: «الأمور المتعلقة بهذه الورقة بلغت الدورية وهي تجري الآن تحقيقاً» في تأكيد منها على الشكوك حوله.
كم كان الموقف مُحرِجاً لواكاياما، لكن، ولأن الرجل حكيم وقفَ بكل جرأة وقال: «الآن ظهرت أخطاء عديدة. أعتقد أنه من الأفضل سحب ورقة البحث واستخدام بيانات صحيحة وصور صحيحة لإثبات مرة أخرى صحة الورقة. إذا ثبت عدم صحتها فسوف يتعين علينا توضيح لماذا حدث مثل هذا الأمر. إن نتائجها أصبحت الآن محل شك كبير».
ورغم أن تيروهيكو واكاياما أستاذ جامعي مرموق قال ذلك وخَتَمَ حديثه لمحطة NHK التلفزيونية: «لم يعد واضحاً ما هو الصحيح». كان ذلك موقف جميل ومُقدَّر منه، وهو أن يعترف بأنه أخطأ. ولو كان أحمقاً لربما أصرَّ على رأيه ولَشَنَّ حملة مضادة على نقاده. لكنه لم يفعل. ربما لأنه ينتمي إلى نظام تعليمي لا يسمح له بأن يفعل غير ما فعل.
هذا النظام التعليمي، لخَّصته إجابة أحد رؤساء الوزارات في طوكيو عندما سُئِل: ما سرّ تطور اليابان رغم أنها كانت مُدمَّرة بعد الحرب العالمية الثانية؟ قال: «أعطينا المُعلِّم راتب وزير وحصانة دبلوماسي، وإجلال إمبراطور». كيف لا وهو الذي يُعلِّم وزراءهم عندما كانوا طلاباً، وهو الذي يُعلِّم دبلوماسييهم وسياسييهم في صغرهم وعندما يصبحوا رجالاً.
الحقيقة أن القراءة والحديث عن التعليم في اليابان، وعن المعلمين والطلاب لهو أمر مثير للتأمل. وهو الذي يجعلني أستحضر ما جرى لواكاياما قبل عام ونصف تقريباً. فالمعلِّم الياباني هو مَنْ يصنع القرار في مدرسته. في كل عام، يجتمع مُعلِّمو كل مدرسة كي يتناقشوا ويُقرِّروا الخطط التربوية اللازمة لمدرستهم، ثم يقومون بتدوينها في كرّاس مطبوع يكون أشبه بالدليل الاسترشادي للجميع. هكذا كُتِبَ وقيل وتُنِدِّر عنهم.
كما أنهم يُقسِّمون العام الدراسي إلى أربعة أجزاء، في كل جزء منها يلتئمون في حلقات بحث مُعمَّقة يتبادلون فيها البحوث المُعدَّة، ويضعون أمامهم أحدث نظريات التعليم، والمشكلات المزدوجة، سواء على مستوى المنهج الدراسي أم المسار العملي والإداري. لكن المعلِّم لا يُعطَى هذه المهنة فقط لأنه دَرَسَ وتخرَّج من جامعته، بل هناك شروط أخرى تجعله يستحق هذه المكانة المرموقة في مجتمعه. وعندما يدخل سلك التدريس لا يُعطى صكّ العمل مدى الحياة، بل هو مُلزَم بأن يُقدِّم اختبارات دوريَّة حتى يتمّ التأكد من استمرار لياقته العلمية. لذلك تجد المعلِّمين في اليابان غاية في التميُّز العلمي والتربوي.
أما بالنسبة للطلاب، فإنهم يرفلون في نظام تعليمي قلَّ أن يوجد مثله. فإلى جانب المناهج التعليمية الصارمة، والاشتراطات التي يتوجَّب عليهم نيلها كي ينتقلوا من مرحلة دراسية إلى أخرى (فضلاً عن الاختبارات التقليدية) فإنهم يعيشون في بيئة تعليمية ليس فيها دِعَة ولا تهاون بل أنظمة تربوية متقدمة تجعلهم طلاباً أسوياء صالحين.
في مدارسهم، لا وجود لعمَّال نظافة، ولا لعامل مراسلات يقوم بتصوير الورق (هذا إنْ وُجِدَ ورقٌ أصلاً كونهم يعتمدون على الوسائل الإلكترونية) ولا حتى لحُرِّاس يحرسون المدرسة ومبانيها، بل إن كل تلك المهام يقوم بها الطلاب، ويُساعدهم فيها المعلمون. لذلك، تجد الطالب هو مَنْ يُنظِّف فصله وقاعات الدراسة والممرات والصالات الرياضية. وكل مَنْ قصد مدارسهم عاين ذلك وكَتَبَ عنه، لأنه أيقونة في هذا العالم. هذه التربية تجعل الطالب في خدمة الآخر، فضلاً عن أنها تصقله فتجعله طيِّعاً في تعامله، خافضاً لجناحه غير متسلِّط ولا متكبِّر. لذلك عندما نجد تيروهيكو واكاياما عالِماً متميزاً في الطب الحيوي، فلأنه أحد المُخرجات العلمية النابِهة. وعندما نجده معتذراً عن خطأ قام به، فلأنه تربّى في نظام تعليمي يُفهِمه بأنك في خدمة مجتمعك، لا تغشه في قول ولا فعل، لذلك هم قادرون على الإبداع في الوقت الذي يستطيع فيه الاعتذار.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4751 - الأربعاء 09 سبتمبر 2015م الموافق 25 ذي القعدة 1436هـ
مقال رائع يبين اهمية المدرس و رسالته و هو يربي و يتخرج على بديه جميع طبقات المجتمع...
...
نتحسر عندما نتطلع لتجارب النجاح وجودة التعليم في اليابان والغرب
البلاء أن أنظمتهم التعليمية يسعون لتطبيقها
في مناهجنا ولكن دون العناية بأساس التعليم
وأوده وهو المعلم ..والبيئة التعليمية
سوف نتحدث
مقال رائع ، سوف نتحدث فقط عن إنجازات الآخرين ،وحسرتنا مستمرة حكومات أو أولياء أمور على المستوى الفردي عندنا فشل واسع في التعليم ايظا دعوة كل ولي أمر ان يحاول أن يصنع شىء مختلف عن الواقع كل فرد يستطيع أن يصنع نظام تعليمي ياباني في عائلته
تقدير المدرس
المعلمون في اليابان هم من يحددون حتى أوقات الحصص في كثير من الاحيان والخطة الدراسية الشهرية كذلك دون تدخل فج من الادارة ويتواصلون مع أسرة الطالب ويزورونها كي يتأكدوا من أجواء المذاكرة وهل تناسب الطالب في البيت أم لا