العدد 4750 - الثلثاء 08 سبتمبر 2015م الموافق 24 ذي القعدة 1436هـ

بانفيل في «الغيتار الأزرق» لا يتخلَّى عن الفقد... الحنين وشخصياته المحطَّمة

سيد الذاكرة... وأحد مُصمِّمي الأساليب في اللغة الإنجليزية...

جيمس جويس  - صمويل بيكيت
جيمس جويس - صمويل بيكيت

وصفه نقَّاد كُثُر بأنه أحد كبار المبتكرين والمصممين للأساليب في اللغة الانجليزية، ومن بين أولئك النقاد ديفيد ميغان من «بوسطن غلوب»، فيما وصف نولان ديليلو عمله بأنه «خطير، واشتغاله على النثر جليٌّ، بالغنائية والحساسية، وذلك الكم من المرح في بعض الأحيان. أما «الأوبزرفر» فتناولت محاولاته التي لا تنقطع «لمزج الشعر والخيال في شكل جديد».

إنه الروائي والكاتب الأيرلندي جون بانفيل، صاحب روايتي «كتاب الأدلَّة» و «البحر»، التي فازت بجائزة بوكر العام 2005.

في روايته الأخيرة «الغيتار الأزرق»، لا يبرح بانفيل موضوعات الفقد، والشخصيات المهشَّمة والمعطوبة، كما لا يبرح موضوعات الحنين في الوقت نفسه.

قال عنه سمير رحيم في صحيفة «التلغراف»، يوم الأربعاء (2 سبتمبر/ أيلول 2015)، بأنه «سيد الذاكرة».

رواية بانفيل الجديدة، ترجع إلى الأرضية المألوفة التي يشتغل عليها. الراوي، أوليفر أورم، رسَّام في منتصف العمر، والذي لم يعد يمارس ذلك الفن. علاقته مع بولي، زوجة صديقه ماركوس. يتم فيما بعد فضح تلك العلاقة. هو على قيد الحياة محاولاً مواراة حزنه بعد موت ابنته أوليفيا. غير قادر على التعامل مع فنِّه (رجوعاً إليه). يلجأ أوليفر إلى التلاعب بالألفاظ. «ذات مرة كنت رسَّاماً، والآن أنا صانع الألم».

رواة بانفيل هم في كثير من الأحيان في منتصف العمر مهشَّمون ومعطوبون، ينظرون إلى تاريخهم الرمادي... ينظرون إلى الوراء تفقُّداً لحياتهم الماضية، محاولين تجاوز ما أحدثوه وارتكبوه من أخطاء. شخصياته عادة ما يتم استنساخها: وفاة شخص قريب: الزوجة أو الأطفال. بحصول روايته «البحر» على جائزة مان بوكر العام 2004، قال الناقد الفني ماكس موردن، تزور الأرملة في الآونة الأخيرة بلدة ساحلية لتعكس تلك الزيارة حالاً من صدمة الطفولة. في رواية «ضوء قديم»، يستعيد الممثل أليكس كليف مرة أخرى فترة الخمسينات، عندما كان في سن المراهقة، وعلى علاقة غرامية مع امرأة متزوِّجة. هنالك استرجاع لذكرى الفقدان الذي يتكرَّر في أعمال بانفيل: فقد اثنتين من النساء، ابنته التي انتحرت، والعشيقة التي لم ينسَها؛ على رغم مرور خمسين سنة على علاقتهما.

كما يتذكَّر يقظته المثيرة، وألم الانفصال عمن يحب، كوسيلة لإلهاء نفسه عن تذكّر موت ابنته؛ فيما يشبه استحضار نوعين من التوازن في الحزن لدى الفقدين.

يمنح بانفيل رواته موهبته الخاصة بلغته الوصفية المُدهشة. كما هو الحال في «بروست أو نابوكوف»، تتداعى الأحداث الماضية من خلال تألُّق يتمركز في حيلة لفظية؛ ما يعوِّض عن الذكريات المُؤلمة جزئياً.

عندما يقبض بانفيل على الفكرة بشكل مذهل، تشدُّك بلاغته إلى عالم آخر. في بعض الأحيان، وعلى رغم اللغة في اصطراعها، يُمكن للقارئ أن يشعر بالجانب الرائع وذي القيمة النفيسة في اللغة تلك. القرَّاء الذين يفضِّلون عدم الانغماس في التداعيات الغائمة من الوقت الضائع لشخصياته - وهي كثيرة بالمناسبة - ربما ينالون أو يقفون على ما هو أفضل بامتداد أعمال كاتب الإثارة بنيامين بلاك، اسمه الآخر في عالم الإبداع.

ثمة نغمة طَرُوب تتجلَّى في الإطناب تسود الجزء الأول من الرواية. تذكُّر العشاء لحظة قرَّر إغواء بولي، يقارن أوليفر زوجته غلوريا، مع عشيقته: «في الواقع، هي تيبولو (فنان إيطالي ولد في مدينة البندقية، وتوفي في العاصمة الإسبانية «مدريد»)؛ بدلاً من نوعية مونيه (رسّام فرنسي. رائد المدرسة الانطباعية في الرسم)، أو بياتريس من بورجوندي الفرنسية.

يعترف أوليفر الشخصية الرئيسة في «الغيتار الأزرق»، بلحظات حميمة تأتَّت بالجلوس على العشاء مع بولي ذلك المساء «ما أردت أن افعله حقاً هو أن اقبِّل شفتيها، وأن ألْعق جفونها، و (...)».

يلعب بانفيل لعبة خطيرة مع هذا الغرور الذي تمتلئ به مساحات من الحوار في الرواية. بعض القرَّاء فقدوا كل التعاطف مع أوليفر في بضع عشرات من الصفحات. ولكن عليهم أن يثابروا، فقد أصبح أكثر صدقاً مع ألمه، والألم الذي سبَّبه للآخرين. ثمة تنميق لفظي لطيف، تبزغ منه أحداث دراما قوية.

دار «بنغوين راندوم هاوس»، كانت لها شهادتها بشأن بانفيل وروايته الأخيرة، جاء في جانب منها، بأنها رواية «داهية». تقدِّم موضوعات بانفيل المألوف من الذاكرة والندم. ومع ذلك، هنالك النكتة حاضرة ومستمرة، ضمن مجموعة متنوِّعة ماكرة عُرف بها المؤلف، وشيء أكثر من ذلك. عناصر من شخصية ستيلا جيبونز وبي جي ودهاوس، ثم هنالك المتعة في الكتابة. ينتقل بانفيل إلى أوصاف الناس والطبيعة، وهنا لديه عذر يضيفه إلى الكتابة من خلال عين الرسَّام الموهوب. على يديْ هذا الكاتب الأيرلندي الموهوب، تظل حتى أوصاف شخصياته من صاحب الكرْش، واللص السوْداوي والفاتن معاً، ثمة ما لا يُعدُّ ولا يُحصى من المباهج».

فيما قال موقع «أمازون»، في تقديمه للعمل، بأنه على قدم المساواة ثمة تضخيم ونكران للذات. لدينا الراوي، أوليفر أوتواي؛ حيث الإحالة إلى التفاهة. بين شهرة الرسام واللص الذي لم يسبق له مثيل، ويتم القبض عليه. ذلك الذي يسرق من أجل المتعة فقط. بين الفن (الرسم) وفن السرقة تتم المواءمة في جهد لا نهاية له للاستحواذ على المشاعر».

أندرو موشن، من صحيفة «الغارديان»، كتب هو الآخر يوم الجمعة (28 أغسطس/ آب 2015)، تقريراً يبدو مختزلاً ولكنه يقول الكثير، ويمتلئ بالدراية عن بانفيل والكثير من أعماله. روايات ممهورة بالحبكات؛ طفيفة... غريبة كانت أو مألوفة، يبدو أنها تميل إلى التعويض عن طريق ضخِّ كل ما يوصل خصوصيات صوت السرْد. حتى الأحداث الأكثر رتابة تُصبح مثيرة للاهتمام، إذا كان الشخص الذي يخبرنا عنهم «شخصية» من نوع محدَّد: مُسلِّية... وحشية، لا يمكن الاعتماد عليها، على علم وإحاطة، حتى ولو كانت مجرَّد شخصية ملتوية تمارس نوعاً من خداع الذات.

هذا هو بالتأكيد ما يبدو عليه العرض في رواية جون بانفيل «الغيتار الأزرق» والذي يبدو فيها العنوان يومئ إلى والاس ستيفنز، والذي يحذرنا من توقع وجود نهج تراتبي إلى «الحقيقة». في الواقع، إنها حبْكة تحتوي القليل جداً مما يمهِّد للمفاجأة أو الابتكار (الرجل لديه علاقة، تمتد من العاشقة، عند توغُّله في العلاقة، ولديه نوبة من الذنب، تلتئم علاقته مع زوجته، لتتقلَّص، وتصبح في نهاية المطاف مؤقتة بتحوُّله إلى كلب وفيٍّ للعاشقة القديمة.

طريقة قول الرواية في كل تلك التفاصيل لا تشي بأنها أكثر جرأة. على رغم أن راوي بانفيل، أوليفر أورم، يتجلَّى انهياره وتداعيه بشكل متدرِّج من الحيوية إلى الكآبة بذكاء كافٍ.

شذرات

في مقابلة مع مجلة «Paris Review» قال بانفيل، إنه يحب أسلوب فلاديمير نابوكوف. تأثر إلى حدٍّ كبير بهاينريش فون كلايست، كتب على إثرها ثلاث مسرحياته (بما في ذلك AMPHITRYON) مستخدماً إياها كأساس لروايته «اللانهائيون».

وأوضح بانفيل أنه عمد إلى تقليد جيمس جويس وهو صبي: «بعد أن قرأت كتاب «أهالي دبلن»، وكنت مدهوشاً من الطريقة التي كتب بها جويس عن الحياة الحقيقية، وبدأت على الفور تقليد الكتابة في جانبها السيئ عن كتاب «أهالي دبلن». وبحسب تقرير لـ «الغارديان» البريطانية: «فقد اعترف بانفيل نفسه أن جميع الكتَّاب الأيرلنديين هم على خطى جويس أو بيكيت - وأنه وضع نفسه في معسكر بيكيت». كما اعترف أيضاً بتأثيرات كتَّاب آخرين عليه.

خلال لقاء العام 2011 في برنامج «تشارلي روز شو»، سأل روز «هل كان هنري جيمس نبراساً على الدوام؟» ليجيب: «أعتقد ذلك. أعني أن الناس يقولون ذلك، وكما تعلم، لقد تأثرت مرة ببيكيت وأخرى بنابوكوف، الا أن التأثير الدائم كان لهنري جيمس... لذلك أود أن أتبعه، وأود أن أكون (جيمسياً)».

له رؤيته الفارقة والصادمة، نقف عليها في الكثير من اللقاءات الصحافية التي يجريها بين فترة وأخرى. قال ذات مرة: «كلّ الأموات في أعمالي هم أحياء عندي. الماضي واضح وحاضر أبديّ. أحياء بالنسبة لي لكنني فقدتهم، إلّا في عالم الموت الهشّ لهذه الكلمات».

وعن الكتابة قال: «عندما نكتب، فإن ثمّة مستوى عميقاً من التركيز يذهب إلى ما تحت النفس الطبيعية. هذا الصوت الغريب، هذه الجمل الغريبة التي تخرج منك».

ضوء

ولد وليام جون بانفيل في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1945. يكتب باسم جون بانفيل، وأحيانا باسم بنيامين بلاك. روائي وكاتب سيناريو. عُرف بأسلوبه الدقيق، ونثره البارع، وشخصياته الثرية بالكوميديا السوداء، يعتبر بانفيل «واحداً من الروائيين الأكثر خيالاً في اللغة الإنجليزية اليوم». «وريث بروست»، بحسب الابتكار النابوكوفي له، نسبة إلى الكاتب الروسي الأميركي فلاديمير نابوكوف؛ نظراً إلى أعماله المُعقدة، حيث حبْكة القصص والكلمات المستخدمة فيها كثيرة التعقيد.

تلقى بانفيل العديد من الجوائز في حياته المهنية. روايته «كتاب الأدلة» كانت على القائمة القصيرة للمرشحين لجائزة بوكر. فازت روايته الرابعة عشرة (البحر) بجائزة بوكر العام 2005. روايته الفائزة تحكي عن الحزن واستعادة الذكريات والحب، رواية التداعيات والأثر الذي يتركه الماضي من ندوب على النفس البشرية. ووصفت لجنة التحكيم العمل بأنه «صيغ بحرفية فنية رائعة».

وقال رئيس اللجنة جون سوثرلاند: «إن المحرر الأدبي السابق في صحيفة «أيرش تايمز» اختير من قائمة اقتصرت على عدد قليل من المتنافسين في الجولة الأخيرة.

وفي العام 2011، تم منح بانفيل جائزة فرانز كافكا، في حين تحصَّل في العام 2013 على جائزتين، الأولى: جائزة القلم الأيرلندي، وجائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي.

في العام 2014 ظَفَرَ بانفيل بجائزة أمير أستورياس في الآداب، التي تنافس عليها 24 مرشحاً من 14 بلداً. وجاء في تقرير لجنة التحكيم، أن نثر بانفيل «يفتح مساحات شعرية غنائية مُبهرة بمرجعيات ثقافية تتعايش فيها الأساطير الكلاسيكية والجمال بطريقة ساخرة»، مضيفاً «يظهر تحليلاً مكثفاً لأشخاص معقّدين ينصبون فخاً لنا في ظلام الخسَّة أو في أخوَّتهم الوجودية». وخلص التقرير إلى أن «كل وجه من وجوه إبداعه يجذب القارئ من خلال حرفية عالية في تطوير الحبكة وفي السيطرة على التعبيرات الدقيقة المدونة ومن خلال تأمله في أسرار القلب البشري». يعتبر أحد كبار الأسماء المنافسة على جائزة نوبل في الأدب.

جون بانفيل
جون بانفيل

العدد 4750 - الثلثاء 08 سبتمبر 2015م الموافق 24 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً