في سيرة المفكّر المصري الراحل عبدالوهاب المسيري (ت 2008) أو رحلته الفكرية كما يسميها في كتابه (رحلتي الفكرية... في البذور والجذور والثمر) مهارة عالية في تحويل المواقف البسيطة في الحياة إلى نماذج تفسيرية مدهشة، المسيري كتب سيرته ووصفها بأنها (غير ذاتية غير موضوعية) لأنها تمثل انقلاباً على ما درج الأدباء والفلاسفة والمفكرون على كتابته حين يهمون بسرد ذكرياتهم وتدوين خبرة الحياة التي خاضوها.

ومن طريف ما يذكره المسيري أنه بعد حصوله على الدكتوراه من الولايات المتحدة عام 1969 كان ممتلئاً ثقة بمقدرة الإنسان على تغيير واقعه وإقامة العدل على الأرض، لهذا حرص على الانخراط في حركة المجتمع بالمعنى الإنساني والحضاري وليس المادي. لكنه سرعان ما هاجمته كما يقول ثلاثة ذئاب شرسة ظلت تنهشه بعض الوقت، وهذه الذئاب هي: ذئب الثروة وذئب الشهرة والذئب الهيجلي المعلوماتي.

ويشرح المسيري تفاصيل مواجهاته الدرامية مع هذه الذئاب الثلاثة فيقول إن ذئب الثروة ذئب براني تماماً، وهو ذئب يُعبّر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أكون ثرياً أنا القادم من عائلة تجارية، مصدر الشرعية فيها هو الثروة، ومن هنا إن لم يحققها المرء، انتابته المخاوف واهتزت ثقته بنفسه. لكن يقول أنه تغلب على هذا الذئب بسهولة، وعاش حياة خالية من أي شكل من أشكال التكالب على المال، متفرغاً لمشروعه الفكري الذي ربما لايأتي بالثروة ولكنه سيأتي بالحكمة.

ويقول أنه استطاع أن ينجح إلى حدّ كبير في توظيف المال بدلاً من أن يوظفه المال، وأن ينجز مشروعه المعرفي ولم يضطر يوماً إلى أن يقوم بعمل يتناقض مع مشروعه الفكري أو يعوقه، كما لم يعمل إلا في وظائف يقوم هو بتوظيفها لخدمته، وحتى عندما عرض عليه العمل في هيئة الأمم المتحدة براتب ضخم، آثر البقاء في وظيفته لأن الوظيفة الجديدة كانت ستستوعب كل وقته كما أنها كانت تتعارض مع مشروعه الفكري. ومما ساعده على ترويض ذئب الثروة بل تدجينه تماماً - كما يقول - أن زوجته لحسن الحظ لم تراودها أحلام الثروة ولم تعان من أي نزعات استهلاكية، ومن الأمور المضحكة التي يذكرها أن زوجته مصابة بحساسية من نوع فريد، إذ يصفر وجهها وتعطس حينما تمكث مدة طويلة داخل إحدى المحلات!! وهي حساسية يحسده عليها كثير من الأزواج المصريين.

أما الذئب الثاني، فهو أقل برانيّة ومادية، وهو ذئب الشهرة الذي يعبر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن يصبح من المشاهير، ويقول إنه لم يواجه هذا الذئب عندما عاد للمرة الأولى من أميركا، فقد وجد نفسه يكتب بصورة منتظمة في الأهرام ويتحدث في الإذاعة والتلفزيون وكان مسئولاً عن وحدة الفكر الصهيوني في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، لكن هذا الذئب استيقظ بكل ضراوة في عام 1979 عقب عودته الثانية، فقد كان جو التطبيع سائداً في القاهرة، ولم يسترد موقعه في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، ولم يعد يتلقى دعوات للحديث في الإذاعة والتلفزيون، وفُرض عليه طوق عزلة قاسٍ أو كما يقول «وجدتُ نفسي نكرة» على حين غرّة، وهنا بدأ جوع ذئب الشهرة ونهمه يتزاديان. وقد تعامل المسيري مع هذه الصدمة الحضارية برقي وتفهم عميق، فبدأ في الاهتمام بالعمارة الداخلية لمنزله، وبدأ في اقتناء الأشياء القديمة، ثم جلس مع نفسه ليكتشف أنه يحب الشهرة نعم، ولكن رغبته في الشهرة نابعة من رغبته في حماية نفسه حتى تمكنه من الانتهاء من مشروعاته المعرفية. وهكذا حاول أن يُشبع ذئب الشهرة في داخله حسب شروطه هو وليس حسب الشروط التي يفرضها العالم الخارجي، تماماً كما أحب الثروة بمقدار ما تحققه من خدمة له ولمشروعه. وهكذا صرع ذئب الشهرة وقَبِل العيش بعيداً عن الأضواء خاصة بعد شروعه في كتابة موسوعته الشهيرة (اليهود واليهودية والصهيونية) التي كانت تتطلب عزلة شبه كاملة.

أما الذئب الثالث، أهم الذئاب وأكثرها خطورة وضراوة وجوانيّة، ما يسميه الذئب الهيجلي المعلوماتي، وهو يُعبر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن يكتب كتاباً نظرياً إطاره النظري واسع وشامل للغاية، ولكنه في الوقت نفسه يتعامل مع أكبر قدر ممكن من المعلومات والتفاصيل، وكان هذا الذئب يُغريه ويُثير طمعه بالعمل على وضع كتاب يصل إلى أقصى درجات التخصص والدقة. وهذه صيغة مستحيلة لأنه إن اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، فما بالك برؤية بانورامية متسعة غاية الاتساع وتفاصيل دقيقة في غاية الدقة، لقد كان هذا الذئب ينهش بشراسة في سبيل وهم الوصول إلى الكمال في المعرفة، معرفة كل شيء وقراءة كل شيء في حين أن القدرة البشرية محدودة، ويقول أن هذا الذئب كان يطارده منذ طفولته، ويذكر أنه قرأ بشراهة في سنوات دراسته للماجستير وكان يتوق لقراءة كل ما خطته يد البشرية!! ولم ينقذه مؤقتاً من براثن الذئب سوى سفرة إلى الغرب للدارسة.

أظن أن المسيري نجح، بكثير من من الوضوح، في تصوير نوازع النفس الإنسانية التي تعتريه في مواقف الحياة المختلفة، ورحلته الفكرية الغنية التي سجلها في 730 صفحة تستحق أن تُقرأ أكثر من مرة، ليس بوصفها نصًّا يرشح بالمتعة التي تقدمها في العادة النصوص الأدبية الجميلة، بل بوصفها تجربة عميقة لمفكر عربي عرف الكثير من التقلبات في حياته، لكنه كان صادقاً ووفيًّا لخياراته جميعها من خلال ترجمته لأفكاره إلى واقع عملي حي.