خرجت مملكة البحرين عن بكرة أبيها أمس الجمعة (4 أغسطس/ آب 2015) واليوم لتجسد إحساسا وطنيا وشعورا إنسانيا جارفا بالتضامن الشعبي والتلاحم الوطني، وما زالت هذه الحالة الشعورية التي لا تتكرر كثيرا في حياة كثير من الشعوب وتاريخها قائمة حتى هذه اللحظة، ويتوقع استمرارها لفترات وفترات قادمة لتعبر البحرين بأسرها، قيادة وحكومة وشعبا، عن كيف يمكن لها أن تواجه في لحظاتها التاريخية الحاسمة جملة المخاطر الجسام التي تحدق بها وبالأمة، وتستوجب من الجميع، أفرادا ودولا ومؤسسات، التكاتف وتقديم التضحيات من أجل مجابهتها والتصدي لها.
وكان من اللافت أن يتجاوز هذا الشعور الحماسي الجارف الذي عبر عن نفسه فور استشهاد خمسة من أبناء قوة الدفاع وهم يؤدون واجبهم الوطني ضمن التحالف العربي المشارك في عملية "إعادة الأمل" باليمن، حالة الحزن والمواساة الطبيعية في مثل هذا المصاب الجلل، إلى حالة أخرى من الدعم والالتفاف حول قيادة المملكة ومؤسساتها، والمساندة لأسر الشهداء، والبشرى ببذل الغالي والنفيس من أجل البحرين وقضاياها ونصرتها للحق ولأشقائها في الداخل والخارج على السواء.
فيض ودفق شعوري عارم برهن بالروح والجسد والنفس على حقيقة ولاء هذا الشعب الكريم، وعلى الانتماء لأرض هذا الوطن الأبي، ودعم مواقفه الوطنية المشهودة والمستمرة.. حالة انصهرت في إطارها كل مكونات المجتمع بأفراده وشرائحه، والتقى في بوتقتها البحرينيون كافة دون تفرقة بين أحد، حيث سَطَر الشعب البحريني بدمائه الخالدة، ومواقفه المتضامنة مع أشقائه، والتفافه حول قادته ومسؤوليه، ملحمة إضافية تسجل ضمن مواقفه ومبادراته وتضحياته العديدة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية برمتها.
لقد كشفت التطورات التي ما زالت تتوالى حتى وقت كتابة هذه السطور عن عدد من المشاهد التي ستظل باقية في ذاكرة الشعب البحريني إلى أبد الآبدين، حيث ستكون نبراسا هاديا له في مستقبله القريب والبعيد من أجل مزيد من البذل والتضحية ليس فقط من أجل البحرين وفي إطار حدودها الجغرافية المعروفة، وإنما لأجل الوطن العربي والإسلامي برمته وقضاياه الشرعية العادلة، ولعل من بين أبرز هذه المشاهد التي يمكن رصدها وقراءتها:
أولا: إن الدماء الخالدة لجنود البحرين البواسل في اليمن لم تكن سوى قطرة واحدة في محيط العطاء والفداء الذي قدمه البحرينيون لقضايا أمتهم، وصفحات التاريخ القريب والبعيد ملأى بسطور من نور تؤكد هذا المعنى وتوضحه بداية من الانتصار لقضية العرب الأولى في فلسطين، وانتهاء بعملية "إعادة الأمل" واستعادة الشرعية في دولة اليمن الشقيق، ومرورا بالطبع الدفاع عن قضايا الاستقلال القومي ونصرة المظلومين ومساندة الأشقاء والدعم الإنساني في ربوع البسيطة ومحاربة التطرف والإرهاب والجريمة والقرصنة الدولية، وغير ذلك الكثير.
ثانيا: إن شهداء البحرين البواسل، وهم يؤدون واجبهم المقدس الذي نذروا أنفسهم له فداء وتضحية من أجل حاضر الوطن ومستقبل أمتهم، وجادوا وما زالوا يجودون بدمائهم الذكية وبأرواحهم النفيسة في سبيله، ستبقى ماثلة في الذاكرة الوطنية، وشاهدا حيا على ما يمكن أن تقدمه البحرين وجنودها الأبطال في قابل الأيام إذا ما استجد جديد، أو دفعت الحاجة مستقبلا إلى جهودهم وتضحياتهم، خاصة أنهم كانوا وسيظلون أبد الدهر حماة للوطن ودرعا له، وموكول لهم الذود عنه والدفاع عن حياضه وسط المخاطر ومصادر التهديد المحيطة بكيان الأمة بأسرها.
ثالثا: موقف القيادة الراسخ، والذي عبرت عنه كلمات واضحات في برقيات العزاء والمواساة التي تم تبادلها، بأن تضحيات جنود البحرين البواسل ستظل "حاضرة" دوما في ذاكرتنا وأفئدتنا، في إشارة مهمة إلى أن هذه التضحيات تُثمن عاليا من جانب مملكة البحرين ومؤسساتها وكل مسؤوليها، وبخاصة جلالة العاهل المفدى وسمو رئيس الوزراء وسمو ولي العهد، وأنها مع إقرارها بأنها لا تستطيع إيفائها حقها كاملا بعد أن قدموا دمائهم في سبيل الوطن وقضايا الأمة العادلة، فإنها لن تدخر جهدا في تقديرها التقدير الكافي، والإعلاء من شأنها، وتسجيلها ضمن إنجازاتها الوطنية، ومنحها المكانة اللائقة بها لتظل حية في قلب كل بحريني.
رابعا: صورة ومشهد التفاف الشعب البحريني حول شهداء جنوده البواسل وذويهم وحول مؤسسة قوة الدفاع ومنسوبيها ودورهم وحول القيادة الرشيدة أيضا في موقفها الداعم والمناصر لقضايا الوطن والأمة، وهو مشهد مهيب لم تجسده فحسب برقيات العزاء والمواساة التي رفعتها كل الأسر والعائلات البحرينية، وما زالت تترى حتى الآن، وإنما أيضا خلال المراسم العسكرية لاستقبال جثامين الشهداء، وعبرت بصدق عن حقيقة يغض الكثيرون الطرف عنها، وهي أن البحرين كلها ستبقى وستظل أبدا على قلب رجل واحد، ولن ينال منها حاقد أو باغض أو كاره.
خامسا: إن البحرين ستبقى على العهد دائما مؤمنة بوحدة المصير المشترك مع شقيقاتها، سيما الخليجيات والعربيات، وبخاصة كل من المملكة السعودية واليمن، وستقف بجانبهم دوما من أجل الشرعية وحماية حدودهم، مقدمة أعز ما تملك من أرواح ودماء أبنائها المخلصين في سبيل ذلك، ولن تبخل بأي غال وثمين من أجل تحقيق ما تصبو إليه الأمة انطلاقا من قناعتها الثابتة وإيمانها المطلق الراسخ بأن حال الأمة والمنطقة لن ينصلح إلا باتفاقها وتعاونها ووحدتها وتكاملها بحيث تجسد كل دول المنطقة الصف الواحد والبنيان المرصوص الذي اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.