في عالم الصورة، لا يبقى شيء بعيد عن العَيْن. الأشياء الصغيرة جداً تبدو كبيرة جداً. والأشياء الكبيرة جداً تبدو أكبر من محجر العين كله أو عدسة عين السمكة. حتى في الأصوات، لم يعد هناك خُفُوتٌ فيه، فآلة التطور تكفلت بأن تجعل كل الأصوات جَهْريَّة ومَقْمَاقيّة، وكأن المتكلمين يُخرجون أصواتهم من بطونهم بأقصى ما عندهم من قوة، كالَّلعَّاعين أو أشباههم.
في صورة مثل هذه لا يبدو الإنسان في حجمه وفي تحمله بقادر على أن يرى الصور ويسمع الأصوات بأكثر مما هي. إلاَّ إذا كان اليُبْس قد رَصَفَ قلوب البعض، ومُدِرَت فجوات عواطفهم، «فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» رغم «إِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه» كما في الآية الـ 74 من سورة البقرة.
من هنا أبدأ فأقول: لَمْ يبقَ أحدٌ إلاَّ وشاهد صورة الطفل السوري، عَيْلان كردي (أو إيلان) وهو مكبوب على وجهه في ساحل شبه جزيرة بودروم التركية، وقد أسلَمَ الروح إلى بارئه دون أن يدري في أي معركة هو. كثيرون كتبوا عن هذه الصورة، وسيعقبهم آخرون، لكن الحقيقة هي أن الكتابة إن بقيت واستنفدت مِداداً هائلاً فلن تكفي لأن يعبر الناس عن هذا المشهد الرهيب. والسبب أن كلهم يشعرون بالإثم العيني الذي ساهموا فيه.
بعض الصحف الغربية، تمنَّعت عن نشر صورة الطفل عَيْلان؛ لأنها تُفطِّر القلب! وهي فعلاً كذلك. فالمرء يحار أمام ما شاهده. طفل بكامل هيئته، انتعالاً وأسمالاً زرقاء وحمراء، وشَعْرًا مَسحُوجاً بعناية، لكنه نائمٌ بهدوء تام، بِكَبِّ وجهه على التراب، بينما الموج في ذهاب وإياب عليه كأنه مترددٌ في أن يتركه دون أن يُلقِي عليه نداوة علَّه يفيق، بعد أن حمى جسده من قضم السمك المتوحش، الذي ربما هو أيضاً آثر أن يتركه دون مساس، كونه لا يصلح أن يكون غذاء، بل أن يُسلَّم للشاطئ كآية جديدة، وحجة دامغة على أن 7 مليارات إنسان مسئولون عنه.
شرطي خفر السواحل الذي انتشل الصبي قال: «لقد تحطَّم قلبي». لم يقل هذه العبارة عبثاً، فهو قد شاهد من قبل مئات الجثث والغرقى كونه يعمل في هذا المجال، إلاَّ أنه وعندما شاهد هذا الطفل، قال بأن قلبه قد تحطَّم. هذا يعني أن لا شيء يمكنه أن يستولي على كامل الحيِّز لدى البشر، فلا القسوة بقادرة على ملء كل شيء، ولا الشَّر بقادر أن يُسوِّد القلب بسويداء تمنعه من التوق إلى الضوء ولو لشعاع، إذ لا بد أن تأتي لحظة وتنهار الغِلظَة لتحلّ محلها الرحمة والدمع.
قبل 10 سنوات تقريباً قرأتُ خبراً حول تقرير أصدره باحثون من جامعة جونز هوبكنز الأميركية ذات الـ 139 عاماً، يفيدون فيه بأن الأخبار السيئة تُحطِّم القلوب فعلاً بعد ارتفاع «نسبة الأدرينالين وغيره من الهرمونات التي تُفطِّر القلب» حيث يشعر هؤلاء بـ «أعراض مماثلة لأعراض الأزمة القلبية مثل الألم في الصدر ووجود ماء في الرئتين وضيق التنفس وهبوط القلب».
ولكن عندما يتم فحصهم يتفاجأ الأطباء بأن هؤلاء المرضى لا يعانون «من أي انسداد في الشرايين الموصلة للقلب أو أي أعراض للنوبة القلبية» لتتضح الأسباب في ذلك وهي وجود نسبة «عالية للغاية من هرمونات التوتر، وخاصة الأدرينالين والنورأدرينالين، في دم هؤلاء المرضى»، بل وجدوا أن «معدلات هذه الهرمونات أكثر بنسبة 7 إلى 34 مرة، مما يوجد في 7 من حالات الإصابة بنوبة قلبية» كما في نص الخبر. وهذا الأمر جدير بالتأمل، وبإعادة النظر في الأمراض التي يُسببها الألم النفسي.
لقد تكفلت صورة هذا الطفل البريء بأن تلسع القلوب المتحجِّرة المتيبِّسة، وتوقظ القلوب الغارقة في سديمها؛ نظراً لكون صورة عَيْلان اختصَّت بشيء لنفسها لا يملكه غيرها، بالضبط كما هو بالنسبة للمحبة فهي «لا تعطي إلاَّ نفسها، ولا تأخذ إلاَّ من نفسها» لأنها «لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبة مكتفية بالمحبة» كما قال أحد أدباء المهجر وهو حال عَيْلان.
ومن المفارقة هنا أنني وجدتُ قولاً للعَجّاج في قواميس اللغة حول معنى عَيْلان ذهب فيه أنه (أي عَيْلان) أبو قَيس إلياسُ بنُ مُضَرَ بن نزار، وأنه «ليسَ لَهُ سَمِيٌّ، وليس في العرب عَيلانُ غَيره». والحقيقة أنه لا يُوجد في هذا العالم عَيْلان كـ عَيْلان المُسجَّى على تخوم شواطئ شبه جزيرة بودروم التركية، وليس له سَمِيٌّ مطلقاً، كونه اختصَّ بما انتهى به عمره وحياته القصيرة، التي لم تَزِد عن 36 شهراً قضاها في اللهو واللعب والبراءة دون أن يعي مَنْ هو ولا مَنْ هو مع مَنْ كما قيل.
أختم بقول لـ جبران يقول فيه: «إن أطفالكم ما هم بأطفالكم، فقد وَلَدَهُم شوقُ الحياة إلى ذاتها. بكُم يخرجون إلى الحياة ولكن ليس منكم، وإن عاشوا في كَنَفِكُم فما هُم مِلْكُكُم». وعَيْلان عاش زاهداً في حياة مديدة. كما أنه عاش ومات دون أن يتملّكه أحد، لأنه أصبح أيقونة من أيقونات الزمن المُّر، الذي سيتذكره التاريخ لوحده دون مزاحم في مشهده التراجيدي الأعظم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4746 - الجمعة 04 سبتمبر 2015م الموافق 20 ذي القعدة 1436هـ
زائر رقم 9 يبدو انه لم يقرا عمود الكاتب "الخسارة الأكبر"
حيث شرح بالارقام ان الدول الأوربية هي المستفيدة من تدفق اللاجئين السوريين الي أراضيها ( المقال نشر قبل يومين ويمكن الرجوع اليه للاستفادة) . من يتحمل ذنوب الغرقي والموتي والجرحي هو النظام السوري اولا وأخيرا
صباح الخير
هائولاء يتحمل ذنوبهم دول الخليج العربي والإسلامي أين تركيا فتحت وشرعت أبوابها لكل حثلاء العالم من ارهابين ونصره وداعش وووووسكرت حدودها عن اللاجئين السوريين أين الدول العربية من حق أوربا أن تحافظ وتقلق ومع ذالك تساعد بقدر الإمكان كثير من الاوربين فتحوا منازلهم هم عندهم انسانيه ونحن لا
لقد انهمرت دموعي
اللهم أني اعوذ بك من قلب لا يخشع وعين لا تدمع
مشهد مؤلم
ماذا بعد تفطر القلوب
اي والله لقد تفطر قلبي
نحن كأمهات وكذلك الآباء تفطرت قلوبنا وسلب النوم من عيوننا في ليال كثيرة ونحن نرى هؤلاء يعبرون وهم يحملون اطفالهم ليتني استطيع ان اضمهم في صدري والوذهم في بيتي.
ياللمفارقات العجيبة!!!
لكم الله يا أطفال اليمن!!! مالأطفال اليمن لابواكي عليهم؟!!
يومياً تتفنن طائرات التحالف في قصف منازل اليمنيين وتحصد ماتحصد هذه الغارات من أرواح نساء وأطفال وشيوخ والعالم المنافق من أقصاه إلى أقصاه صامت صمت القبور!!! لا أدري يا أستاذ محمد أيهم أكثر إيلاماً وإفرازاً للأدرينالين مناظر أطفال اليمن وهم تحت الأنقاض أم الطفل الكردي عيلان وهو مسجى على شاطئ البحر؟؟!!
أستاذ
لقد قطعت نياط قلبي
الخلاصة
لقد تكفلت صورة هذا الطفل البريء بأن تلسع القلوب المتحجِّرة المتيبِّسة، وتوقظ القلوب الغارقة في سديمها؛ نظراً لكون صورة عَيْلان اختصَّت بشيء لنفسها لا يملكه غيرها، بالضبط كما هو بالنسبة للمحبة فهي «لا تعطي إلاَّ نفسها، ولا تأخذ إلاَّ من نفسها» لأنها «لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبة مكتفية بالمحبة» كما قال أحد أدباء المهجر وهو حال عَيْلان