لا تُحْصِ خسائرك؛ سيشغلك ذلك عن الربح والمكاسب. ليس بالضرورة ربحاً في سوق للأسهم؛ أو ودائع ثابتة في المصارف؛ أو صفقات تتم على الهامش. الخسائر الكبرى، تلك التي نعني: أن تخسر محيطك لأنك كنت خطراً عليه، وأحد المُهدِّدات لاستقراره. أن تخسر صدقيتك بعد طول ادِّعاء وتمثيل ولعب بالبيضة والحجر، والخروج على البشر بأكثر من وجه، ربما في اليوم الواحد؛ بل وحتى اللحظة. تلك هي الخسارة التي يجب أن تتوقف أمامها، والحرص على إحصائها، والدخول في مواجهة مع نفسك من خلال مراجعة قاسية لا تقبل الميل أو الانحياز إلى أي منها؛ لأنك على وشك خسارة نفسك؛ إن لم تكن خسرتها فعلاً.
ما لا يجب أن تُحصيه، يتمثل في الخسائر التي تنتج عن علاقات المصالح في جانبها المتوحِّش والناسف للجانب الأخلاقي. ما لا يجب أن تحصيه ألاّ تكون من دون أسرار تركْتَها كالسلعة المكشوفة أمام من كنت تظن أنهم أهل لمستودع الأسرار فحوَّلوك إلى فضيحة تمشي على الأرض. ما لا يجب أن تحصيه، النبيل من المواقف مع وحوش في هيئة بشر، ومصَّاصي دماء تحت عنوان: أصدقاء، وذئاب تحت مسمّى إخوة. لا تُحصِ كل تلك الخسائر، وهي ليست كذلك بتدبّر بسيط، لأنها فتحت عينك، وربّتْك على التأنِّي وعدم الاندفاع، وجعْل نفسك عرضة للسذاجة والطِيبة التي ينفذ منها لصوص العلاقات، وتسيير حاجاتهم، وينفذ منها أصحاب العُقد والذين يعجُّون بالنقص. لا تُحْصِهم كي لا تكفَّ عن أن تكون إنساناً نبيلاً، سيُحدث أثراً ولو بسيطاً في المحيط الذي يتواجد فيه؛ صغر أو كبر ذلك المحيط، وعدم ترك الذئاب من ذوي العورات والعاهات يسرحون ويمرحون في دنيا الناس، خراباً، وتفتيتاً للعلاقات، ونهْشاً في القيم، وما تبقّى من فضيلة في هذا العالم.
في إحصاء الخسائر تفويت - في كثير من الأحايين - على المرء فرص أن يحاول ويستأنف الأدوار التي ربما لم تسعفه مراحل وظروف ما لإنجازها، وتحدث الأثر لدى كثيرين ببروزها. إحصاؤها قد يكون بمثابة لجام وكابح يحول بينه وبين المدى المفتوح الذي صُنع وأوجِد له، كي ينطلق لا أن ينزوي ويعتزل، ويوصد أبوابه في وجه حركة الحياة.
وفي إحصاء الخسائر، انشداد لزمن أدبر وولَّى، وانسلاخ عن جدوى الحضور في اللحظة الراهنة التي منها تتم صناعة المستقبل وتشكيله. وفي الانشداد لما أدبر تعطيل وندْب، وفي الحضور، تلك القدرة على اجتراح ما هو أكبر من المعجزة: أن تكون إنساناً.
وكما أنه لا نجاح مؤبداً، من ألِفِه إلى يائه، لن يكون لذلك النجاح طعم الظفر، لو لم تسبقه انتكاسات وفشل وخسائر. النجاح الوحيد الذي لم يسبقه فشل، هو هذا العالم من حولنا، ذلك الذي نستمد منه طاقتنا وقدرتنا على البحث والابتكار والاكتشاف، ومنه نتنفس، وفي محيطه نطلق صرخة مجيئنا الأول إلى هذا العالم... ونحن نحبو ونشبُّ ونشيخ. عالم «كامل» مملوء بالكثير من أصحاب «النقائص»!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4746 - الجمعة 04 سبتمبر 2015م الموافق 20 ذي القعدة 1436هـ