الروائي والكاتب البيروفي، حائز جائزة نوبل في الآداب العام 2010، ماريو فارغاس يوسا، في سلسلة مقالاته التي نشرها في صحيفة «البايس» الإسبانية، وصدرت في كتاب بعنوان «ملاحظات في شأن موت الثقافة: مقالات في شأن الاستعراض والمجتمع»، وصدر في نسخته الأصلية، ضمن عنوان رئيس بهذه الصيغة: «حضارة الاستعراض»، تتناول مجموعة رؤى وأفكار لاذعة وصادمة ومتناقضة، «بعيداً عن المسار الخيالي المُكرَّس في الأعمال الروائية ليوسا»؛ بحسب تعبير الناقد الفني والكاتب جوشوا كوهين، لدى وضع ملاحظاته على ملاحظات فارغاس، في صحيفة «نيويورك تايمز»، يوم الاثنين (17 أغسطس/ آب )2015.
خلاصة أهم الأفكار، أو النتائج التي كرَّسها يوسا هي في الآتي: دعوته إلى تحديد «طبقية» تتركَّز في النخبة للتعاطي مع الثقافة، كي تحافظ على جديتها وقدرتها على التغيير. وبتفسير آخر، هو يرى أن ثمة طبقة من الرعاع، عمدت إلى التطفل على الثقافة فأفقدتها قيمتها؛ لذا يجب تجنيب الثقافة تورطها بتلك النوعية من القرَّاء والهامشيين. بذلك المعنى نفترض أن جانبا من السخْط لا يذهب إلى موت الثقافة بالمعنى المباشر أو الحرْفي؛ بقدر تناوله لتلك الإشكالية من حيث التبدُّل الجذري الذي طالها بفعل معطيات متباينة، وتحولات طالت العالم، وبالتالي انعكست على الثقافة بالضرورة.
من جانب آخر لا تخلو أطروحة فارغاس من التناقض، بدعوته إلى قراءة أي شيء؛ بما في ذلك الأدب الرديء الذي يرى أنه مهيمن اليوم على المشهد الإبداعي العالمي، فذلك أفضل بكثير من الإحجام عن القراءة! هو يرى أيضاً، ضمن قراءته وتتبعه لعدد من الحضارات، أن أطوار الموت أو الانهيار الذي مرت به ثقافاتها - حضارياً وتاريخياً - يرجع في جانب كبير منه إلى تصدي من لا شأن لهم بالثقافة لتحمُّل أدوارها ومسئولياتها.
هيمنة القيم الثقافية ووضوح الاختلاف
في ظل هيمنة وسيادة القيم الثقافية سيتضح الاختلاف بين الناس في تعاطيهم وتعبيرهم عن تلك الثقافة؛ حتى أولئك الذين لم ينالوا حظاً يمكن الاعتداد به من تلك الثقافة، يمكن قبول كل ذلك وتفهُّمه؛ أما اليوم فالأمر مختلف تماماً، ويرجع فارغاس يوسا ذلك إلى تغيُّر طال كل ما تمت الإشارة إليه، وذلك من خلال «التوسّع الذي طال مفهوم الثقافة»، إلى الدرجة التي كاد أو يكاد أن يتلاشى فيه ذلك المفهوم.
يؤمن فارغاس، مثل كثيرين، بقدرة الأدب والثقافة على جعل الحياة مغامرة لا يمكن إلا أن تكون مقترنة بالعمق، شرط أن تتحقق تلك الطبقية، أو لنسمِّها «التراتبية» التي ضاعت وتلاشت وسط أكوام من الكتابات الرديئة والثرثرة.
هو نفسه تناول ذلك في أطروحة الكتاب/ المقالات بإشارته إلى أن الثقافة - اليوم - مثلما هي في الأزمنة القديمة، باتت شبه مُنقرضة، وفي ذلك ارتجال لا يخلو من اندفاع؛ وخصوصاً أنه صادر عن واحد من أكبر مثقفي القرن الماضي والحالي.
علينا أن نتوقف عند الجانب الخيالي في مشروع فارغاس نفسه، والذي لم تنْجُ منه مقالاته في المحصلة النهائية لقراءتها. هو نفسه يرى أن «الرواية مملكة الكذب، والشعر ضمير العالم»، ذلك في مقام. في مقام آخر لم يتردد في القول: «أحب أن أمزج الخيال بالحقيقة لكي (أكذب) أفضل».
بالعودة إلى ملاحظات جوشوا كوهين، على ملاحظات فارغاس، في صحيفة «نيويورك تايمز»، كتب في العدد المشار إليه، قبل أن يتناول ويفكك مقال فارغاس، عمَّا أسماه «المشكلة الصحافية»؛ إذ قبل نحو عشر سنوات كتب مقالاً عن الشعر المعاصر للصحيفة التي «ستبقى مجهولة»، وكانت مناسبة ليقتبس سطراً من «إليوت». «أرجع المحرر العديد من التغييرات، والأكثر تعبيراً هو أن الاقتباس يرجع الآن إلى «الشاعر الإنجليزي ت إس. إليوت». كنت منزعجاً، سألت: ما الذي كان يحاول المحرر توضيحه: هل كان يخشى من أن القرَّاء لن يُدركوا أن الاقتباس جاء من قصيدة؟ أو هل كان يخشى من أن القراء قد يخلطون بين ما كتبه إليوت، وما قاله، جورج إليوت، المؤلف المستعار في «ميدل»؟
كوهين أشار في ملاحظاته إلى أن التعريفات الإنجليزية كانت مُضلِّلة: على رغم أن ت إس إليوت تحصّل على الجنسية البريطانية، إلا أنه ولد في أميركا.
يُكمل كوهين التقديم للمقال/ الملاحظات على ملاحظات فارغاس، بما يشبه السرد ضمن مساحة تبدو شخصية، ولا تعني القرَّاء في شيء، ولكنها على خلاف ذلك، إذا تتبَّعنا سياق تناوله، والأفكار التي ناقشها أحياناً، وحاكمها أحياناً أخرى «ثم أرسل المحرر اقتراحاً آخر: «الأميركي المولد، الشاعر الإنجليزي ت إس. إليوت. بالنسبة لي، استنفدت كل الصبر لديَّ، وأنا في الرابعة والعشرين من العمر، بالرد عن طريق التعديل ضمن الصيغة الآتية: «الأميركي المولد، البريطاني الجنسية ،الشاعر الإنجليزي، كاتب المقال، الكاتب المسرحي، المدرِّس، الناشر، الصرَّاف في البنك، توماس ستيرنز إليوت (1888-1965). استوعب المُحرِّر الفكرة وألغى المهمة بعد ذلك».
النقد... المُستهلك للقراءة برداءة
لم يأت ذلك الموقف، ولم تتكرر المحاولات بين كوهين والمحرر عبثاً، وذلك ما عبَّر عنه كوهين، بأنه ليس نوعاً من الانتقام أسعى إليه «ولكن أيضاً لتوضيح الكيفية التي تعمل بها الثقافة، من عدمها. لا يسعني الشك بأنني إذا كنت أكتب لعقد أو حتى في المستقبل سأتوقع - على رغم كل المعلومات القابلة للبحث على الانترنت - شرح ما هو «صراف البنك» أو «الناشر»؛ ناهيك عن ذكر - ولو لمرة واحدة - ما تعنيه كتابة النقد، بدلاً من المراجعة أو النظر إلى المستهلك للقراءة (ربما في جانبها الرديء وغير المُنتج).
«ملاحظات في شأن موت الثقافة: مقالات بشأن الاستعراض والمجتمع» (جاء العنوان بلغته الأصلية: «حضارة الاستعراض»، تتناول مجموعة رؤى وأفكار لاذعة وصادمة، بعيداً عن المسار الخيالي المُكرَّس في الأعمال الروائية ليوسا؛ أو هل (ينبغي أن أقول) للروائي الإسباني لغة، البوريفي جنسية، الحائز جائزة نوبل في الآداب العام 2010 ماريو فارغاس يوسا، مؤلف أكثر من عشرين كتاباً؟
موضوع إصداره الأخير هو «نحن»، (ويمكن النظر إلى الكلمة باعتبارها ضميراً متصلاً «نا») عِوَز: الثقافة المشتركة، أو السياق المشترك، المجموعات المشتركة من المرجعيات والتلميحات، والفهم المشترك لمن وماذا يشير إليه الضمير «نحن».
«ملاحظات» تبدأ بمسح للأدب في عصر الانحطاط الحضاري، تركيزاً على إليوت «ملاحظات نحو تعريف الثقافة»، قبل أن تتطور إلى سلسلة تشبه المفرقعات - عن الإسلام، وشبكة الإنترنت، وتفوق الجنس على الإثارة الجنسية، وانتشار الصحافة الصفراء - معظمها بدأ كأعمدة في صحيفة البايس الإسبانية. وكلها تقول أو توحي بأن فارغاس يوسا غريب الأطوار، وما كتبه هو عبارة عن بيان متسرِّع ومصنوع من المواد ذاتها التي تنتقد: الصحافة.
التقليل من «الإليوتية»
يفتتح فارغاس يوسا مقالاته بالتقليل من الإليوتية (نسبة إلى ت إس إليوت). إليوت يعرِّف الثقافة بأنها موجودة في، ومن خلال ثلاثة مجالات مختلفة: تلك التي لدى فرد، ومجموعة أو فئة، وبقية المجتمع ككل. حساسيات الأفراد تجعلهم تابعين لمجموعة أو فئة، والتي يجب ألَّا تكون هي نفسها المجموعة التي نشأت وولدت من أولئك. تلك الجماعة أو الطبقة تواصل ممارسة تدريب أفكارها الثقافية لتطول المجتمع ككل، من النخب، المتعلمين والفنانين. في الترتيب المثالي لإليوت: الاستفادة من فرص حصولهم على وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية للتأثير على أذواق وتوجُّهات المواطن العادي، والجيل القادم أيضاً. أما فيما يتعلق بما يشكِّل الفرد، فيبدأ ذلك من الأسرة، والأسرة، في المقابل، تشكَّلت وتتشكَّل من قبل الكنيسة: «في ظل المسيحية اكتسبت فنوننا وجودها وتطورها» وهنا يكتب إليوت: «في المسيحية - حتى وقت قريب - تجذَّرت قوانين أوروبا».
«حتى وقت قريب» تشير تحديداً إلى سنة نشر مقالات إليوت: 1943. فارغاس يوسا يغادر تلك الحقبة، للنظر في عمل جورج شتاينر، والذي وضع في العام 1971 روايته «في قلعة بلوبيرد»، وكانت عبارة عن رد مباشر على إليوت، من وجهة النظر المضادة، والتي من خلالها يُعرّف كل من شتاينر وفارغاس يوسا «ما بعد الثقافة».
في رواية شتاينر، والتي، أحاول مرة أخرى، أن أختصر الحاد من أفكارها، هنالك التفوق في مرحلة ما بعد النابليونية البرجوازية الأوروبية، وفيها وقعت الثقافة في الضجر والانحطاط، لتصبح منفذاً «للتعالي» الموعود سابقاً من قبل الدِّين، وقد تحوَّلت الآن فقط إلى شكل من أشكال «التفجّر والعنف الكارثي» (الاقتباس هنا من فارغاس يوسا).
موت الإله في الحروب النابليونية
بالنسبة إلى «شتاينر،» يكتب فارغاس يوسا: «الثقافة الأوروبية - ببساطة - لم تنفذ رغبات الآخرين؛ لكنها أرادت أيضاً حدوث انفجار وتطهير دموي، ذلك الذي تشكَّل في حقبة الثورات والحربين العالميتين. بدلاً من وقف «حمَّامات الدم هذه، استفزَّت الثقافة المرجوَّة كل ذلك واحتفلت به». وبعبارة أخرى، مات الإله؛ باعتباره آخر قتيل في الحروب النابليونية، وحروب القرن التي أعقبت ما تم وضعه وتدشينه من نفايات للإنسان. ما تبقَّى هو عهد ما يُطلق عليه فارغاس لوسا «المشهد»: تقنية الترفيه، ورأس المال. (ذلك هو الغالب اليوم في صيغ جديدة؛ سواء تلك التي تقدم من خلالها الثقافة، أو تحول تلك الصيغ إلى ثقافة بحد ذاتها. يختصر فضاء كبير من مواقع التواصل الاجتماعي، شكلاً من أشكال الثقافة المسلوقة والمُهجَّنة، والتي يتم إعدادها تبعاً وارتباطاً بالحدث الراهن، والذي بات طاغياً على اهتمام جيل من الشباب يشكل النسبة الأكبر بين عدد السكَّان في العالم اليوم).
لذلك، فالتاريخ الذي يبدأ مع الاغتراب الإليوتي - الأنجلو أميركي، من خلال القلق من جرَّاء اللاجئين الألمان اليهود، وينتهي مع الشيوعية، البنيوية الفرنسية: غي ديبورد (باحث ثوري، يرى أن الثقافة الرسمية هي (لعبة مقنعة) تقوم فيها السلطات المحافِظة بمنع الأفكار الهدَّامة من الوصول المباشر إلى الخطاب العام، والتي تتم فيها إدماج هذه الأفكار فقط بعد التقليل من قيمتها وتعقيمها).
مرحلة الأطراف... الهوامش
الآن نحن على استعداد لما اصطلح على تسميته، مع الازدراء الاستعماري، بالهوامش، الأطراف أو الحواف: أميركا الجنوبية. ولكن بدلاً من الإشارة إلى أن الثقافة الأدبية الأكثر إثارة للاهتمام في العالم، بعد العام 1968، والتي تم التقعيد لها وإنشاؤها من خلال كورتازار (الأرجنتين)، دونوسو (شيلي)، فوينتيس (المكسيك)، غارسيا ماركيز (كولومبيا)، بويغ (الأرجنتين) وفارغاس لوسا نفسه، بدلاً من كل ذلك، ظلت تلك الثقافة تنعى عدم وجود جمهور، كما لو أن الروايات يمكن لها أن تقوم بذلك أكثر من أي وقت مضى، أو يجب أن تقوم بذلك الدور. (في العملية التغييرية التي يمكن للثقافة أن تتبوأ مكانتها الكبرى في عمليات التحديث والتغيير واصطراع الأفكار، إلى جانب منظومة من الخيال مازالت موَّارة ودفَّاقة).
إنها هنا، في مقال «حضارة الاستعراض»؛ حيث يقع بارغاس يوسا في التناقض - حض المزيد من الناس على قراءة المزيد من الكتب، حتى في الوقت الذي شجب فيه الآثار الضارة لـ «الدمْقرطة»: «هذه ظاهرة ولدت من الإيثار: لم تعد الثقافة إرث النخبة. كان على المجتمع الليبرالي والديمقراطي واجب أخلاقي لجعل الثقافة في متناول الجميع، من خلال التعليم ومن خلال تعزيز ودعم الفنون والأدب والأساليب التعبيرية الثقافية الأخرى. وقد كان لهذه الفلسفة الجديرة بالثناء أثر غير مرغوب فيه بالنتائج التي أحدثتها في التهوين والحط من قيمة الحياة الثقافية، لتبرير شكل سطحي، ومحتوى في الأعمال على أساس الوفاء بواجب مديني لوصول الثقافة إلى أكبر عدد من الناس».
لكن بارغاس يوسا لا يتوقف عند هذا الحد. في مكان ما من هذا المقال يشير إلى أنه «ليس من المستغرب إذن أن الأدب الأكثر تمثيلاً في عصرنا هو (هيِّن)، أدب سهل، والذي، من دون أي شعور بالخجل، يُحدد كما لو أنه - تقريباً - الهدف الرئيسي والحصري والمسلي».
ضوء
يُذكر، أن خورخي فارغاس يوسا ولد في أريكويبا في البيرو، في 28 مارس/ آذار 1936. روائي وصحافي وسياسي. حصل على جائزة نوبل في الأدب العام 2010. عرفته أميركا اللاتينية ومن ثم العالم، بعد نشر روايته الأولى «المدينة والكلاب» ونالت عدداً من الجوائز، كما تمَّت ترجمتها إلى عدد من اللغات الأجنبية، تجاوزت العشرين لغة.
من أعماله: «البيت الأخضر» (1965)، «المدينة والكلاب» (1963)، «لغة الشغف» (2001)، «رسائل إلى روائي شاب» (1997)، «السمكة في الماء» (1993)، «الحقيقة من الأكاذيب» (1990)، «بين سارتر وكامو» (1981)؛ وفي المسرح «مجنون الشرفات» (1993) و «المزحة» (1986)، «الفردوس، أبعد قليلاً» (2003)، «حفلة التيس» (2000)، «حرب نهاية العالم» (1981)، «محادثة في الكاتدرائية» (1969). ومن بين الجوائز التي تحصَّل عليها: جائزة بيبليوتيكا بريبي (1963)، جائزة روميلو غاييغوس (1967)، جائزة أمير أستورياس للآداب (1986)، جائزة بلانيتا (1993)، جائزة ثيرفانتس (1994)، وجائزة النقاد (1998).
العدد 4741 - الأحد 30 أغسطس 2015م الموافق 16 ذي القعدة 1436هـ