بين عامَيْ 1876 و2015، مئة وتسعة وثلاثون سنة. خلال تلك الأعوام عرف الناس معنى مكبّرات الصوت: مُحوِّل يقوم بنقل ذبذبات الصوت إلى إشارات كهربائية، يُفضي إلى دائرة مغناطيسية، فينتج عنه صوت ميكانيكي في مسار أنبوبي، تتلاعب في أجزائه مُضخِّمات للإشارة الكهربائية، عبر اهتزاز الغشاء المركَّب فيها. وكلما استُخدِم البوق المحاكي للأذن البشرية صار الصوت أقوى.
استُخدِمت مكبِّرات الصوت لأغراض عديدة. ففي الوقت الذي كان يُرفَع بها الدعاء في المساجد والكنائس والمعابد، كان المتظاهرون يُعلُون أصواتهم من خلالها بهدف الاستيلاء على الآذان في المكان. وفي الوقت الذي كان المتعقِّبون يستخدمونها للبحث عن التائهين في الأدغال، كان العسكريون يستخدمونها في إعلان مواقفهم الطارئة في المعارك، أو في إعطاء الإنذارات للعدو.
مؤخراً حدثت أزمة سياسية كادت أن تتحوَّل إلى نزاع عسكري بين بلدين، والسبب هو مُكبِّرات الصوت! كيف؟ فقد قام الجيش الكوري الجنوبي بنصب مئات من مكبِّرات الصوت المُجمّعة في حقول مربعة، وموزعة على 11 نقطة على الحدود مع كوريا الشمالية تبث أنباءً دولية ومواد صوتية تناصر الديمقراطية وحرية التعبير وتُرغِّب الشماليين في الهجرة وتهاجم بيونغ يانغ.
وعلى الرغم من أن الطريق بين الكوريتين لا يُمكن قطعه إلاّ في 3 ساعات، إلاّ أن الكوريين الشماليين ردّوا على ذلك بأنه إذا لم توقف كوريا الجنوبية «البث الدعائي المناهض» فإنها ستواجِه «عملاً عسكرياً»، لأن ما يجري هو إعلان للحرب على كوريا الشمالية. وردّ وزير الدفاع الجنوبي بأن بلاده «ستوسع حجم هذا البث ليمتد إلى كل القواعد الموجودة على خط المواجهة»، وأن بلاده «تعتزم إزالة الأشجار الموجودة على امتداد المنطقة المنزوعة السلاح من أجل تحسين الرؤية».
ردَّت كوريا الشمالية بقصف تلك المكبِّرات عبر قذيفة موجّهة داخل خط الترسيم العسكري (MDL). فأطلقت كوريا الجنوبية «عشرات القذائف المدفعية باتجاه الشمال» وكاد الأمر أن يتحوَّل إلى حرب، والسبب المباشر هو: مُكبِّرات الصوت! تدارك «العقلاء» الأمر فاجتمع رئيسا مجلسَيْ الأمن القومي في البلدين، ووضعا حدّاً لهذا التدهور: نُوقف مُكبِّرات الصوت مقابل اعتذاركم لنا.
انتهى الأمر، لكن ما لم ينتهِ هو أن يتأمل المرء فيما جرى هناك. كيف لمكبِّر صوت أن يُشعِل حرباً بين بلدين يعيش فيهما أكثر من 75 مليون إنسان ينتمون كلهم إلى شعب واحد في الأصل؟ الأمر يبدو غريباً للبعض، إلاّ أن جوهر القضية متعلق بخوف ذلك الحاكم المطلق ونظامه الحديدي في كوريا الشمالية من أن يسمع شعبه لغة أخرى غير تلك التي يسمعها يومياً في الطابور المدرسي أو في الشوارع أو في المصانع.
نظام مغلق، أطلق على نفسه ما أطلق من النعوت كالجمهورية والشعبية والديمقراطية منذ 67 عاماً، ولا يريد أن يستمع إلاَّ لما يقوله. حتى الصحف الاثنتا عشر الصادرة هناك تنشر ما يأتيها من الوكالة الرسمية للأنباء: قال القائد الخالد، واستعرض الرئيس العظيم، وووجَّه الجنرال الشاب. وبقية الأخبار هي عن لجنة الدفاع الوطني والجمعية الشعبية العليا وعن عيد التحرير والأمجاد.
هذا الكهف لا يُراد له أن ينكشف أمام العالم، ولا أن تحدث ثقوب في جدرانه كي لا يتسرّب منها الضوء إلى الداخل فتظهر عورات النظام. لذلك تراه يخشى من مُكبِّر للصوت قد يُقال فيه ما لا يعرفه الكوريون الشماليون المحرومون حتى من شبكة انترنت كتلك الموجودة في العالم، بل أقصى ما عندهم شبكة داخلية تُسمَّى كوانج نيونج كما تذكر «الأسوشيتدبرس»، مقيّدة بقيود لا حدّ لها.
بالتأكيد ليس عدلاً أن يستمع المراقب للدعاية المسلَّطة على كوريا الشمالية من الولايات المتحدة الأميركية، من إعدامات لمسئولين كبار، أو لطريقة العيش هناك، فـ»الكذب يكثر عادةً قبل الانتخابات، وخلال الحرب، وبعد الصّيد» كما قال بسمارك، لكنه أيضاً يجب أن يقرأ ما يجري جيداً في هذا البلد، ومن خلال الصور التي يبثها التلفزيون الرسمي أو وكالة الأنباء الكورية الشمالية.
يمشي الزعيم، فتسير حوله مجموعة من القادة العسكريين، وهم يحملون دفتراً يُدوِّنون فيه كل شيء يقوله، على الرغم من أن مشيه وحركات يده وهيئة جلسته لا تنمّ عن احترام لهم. وإذا ما مرّ على مجموعة من الطلاب أو الفلاحين يأتون إليه وهم يبكون، أو يترجّونه النظر إليهم، وهو في غمرة الانتشاء، ولا ينقصهم شيء سوى أن يكون المارشال راضياً عنهم وعن طريقة ولائهم له.
سمعتُ عاملاً في مصنع زجاج يقول في أحد البرامج الوثائقية: أنا سعيد لأنني جعلتُ المارشال سعيداً. قال رجل عَمِلَ 40 عاماً في الجيش: أهم عهد ينتقل من جيل إلى جيل هو الدفاع عن القائد حتى لو كلف ذلك بذل الروح في سبيله لأنه أساس حياتنا وثقافتنا. هم لا يقولون إنهم سعداء من أجل الوطن، ولا العهد من أجل الوطن بل من أجل الزعيم، الذي برضائه يحيون وبسخطه يموتون! هذا يعني أن كل شيء مُسخَّر من أجله حتى العواطف الشخصية ومكنونات النفوس.
وإذا ما أردنا الموضوعية، فإن كوريا الشمالية ليست بلداً متخلفاً كما يُصوَّر، ولا أن شعبه أمِّي. إنهم يمتلكون تعليماً مدرسياً وجامعياً مرموقاً، فرَّخ لهم علماء في البيولوجيا والتكنولوجيا والصناعات التحويلية. هم يبنون بيوتاً لشعبهم، بحجم 240 متراً، ويُوزّعونها مجاناً، ولديهم مترو أنفاق بعمق 100 متر، ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً، على الرغم من أن الناتج القومي لا يزيد عن 2 في المئة بفعل العقوبات، لكننا حين نتحدّث فإننا نعني أوضاعهم السياسية والثقافية، التي ترهِن كل شيء لشخص واحد، وبالتالي تموت لدى الناس الوطنية الصحيحة والولاء الأمتن للأرض. هذه مشكلة تعاني منها العديد من الدول ولا تنكشف إلاَّ في الأزمات الكبيرة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4739 - الجمعة 28 أغسطس 2015م الموافق 14 ذي القعدة 1436هـ
كوريا الشمالية
تظل كوريا الشمالية دولة مستقلة ذات سيادة اذا قورنت بالجنوبية التابعة لامريكا وهذه مصدر قوتها
قيادة كوريا الشمالية مثالية
لو نظرنا إلى الوضع في كوريا الشمالية من زاوية مختلفة عن الزاوية التي نظر منها الكاتب فربما نرى وجاهةً فيما سلكه النظام هناك فهو في حالة حربٍ كونيةٍ مفروضةٍ عليه ما يعني أنه يعيش حالة طوارئ وهذا يبرر له تلك الإجراءات. ولعل ما يقدمه من خدماتٍ لمواطنيه والتي تفضل الكاتب بسرد بعضها في نهاية المقال لهي دليل على نزاهة عند أولي الأمر لا تتوفر عند من هم في أحوال أفضل بمراحل ويدعون الإنفتاح والعدالة، وبعضهم يدعي الديموقراطية. وبذا يمكننا اعتبار القيادة في كوريا الشمالية مثالية عند المقارنة.
....
هذا لا يعطي الحق في إذلال الناس
40 عاما ..
استمرت حرب داحس والغبراء والسبب فرسين او حصانين كما يقال لكن المشكلة الحقيقية في سبب كل الحروب منذ الخلقة الاولى الى 2015م هو العقول العنيدة والعصبية والقبلية والمذهبية وووو
تسلم كاتبنا العزيز
استمعت بقراءة المقال
الحاكم الظالم في خوف دائم على عرشه
لا على الوطن ولا الأرض فضلا عن الشعب
مقارنة الشمال بالجنوب
لا فرق بينهما كليهما،فالأول متسلط داخليا والآخر مستقوي بالخارج....والضحية هو المواطن....الاستعباد بصنع أصنام تعبد لها أمثلة كثيرة لماذا لم تذكرها وركزت على بلد يحاول على طريقته الخاصة وان كانت خاطئة ان يكون مستقلا دون غيرها مستعبدة من خارجها؟
الأخ محمد
مر علينا اللوزي عند مسجد السجاد بتسمع عن موضوعك وخاصه ايام المناسبات الي مأتخلص طول السنه لكي لا تلوم الكورين الجنوبين
ماذا أقول وانا احد المحاربين لهذه العادة السيئة في استخدام مكبرات الصوت
لا تذهب لكوريا فلدينا خير وكفاية
يتصور البعض ان له الحرّية باستخدام أي جهاز يستطيع من خلاله بثّ ما يشاء وبأي مستوى من الصوت غير عابئ بما يلحقه هذا الجهاز من أذى بجيرانه.
يستغل البعض الحرّية
ويستغل البعض مراعاة الجيران لحق الجيرة فيضع على منزله مكبر الصوت بلا احم ولا دستور فيؤذي الآخرين وهو يظن انه يقوم بحصد الثواب
دائما الظالم يعيش الرعب
حتى من اصوات الرياح والذباب والحشرات ترعبه فما بالكم بمكبرات الصوت
يجب أن يكون الانسان وكرامته محور الإنطلاق
اتفق مع الكاتب العزيز فيما طرح من هزالة النظام الكوري الشمالي و وهنه رغم تقدم النظام في بعض الميادين العسكرية..من صناعه وتقنيه..الا إن الانسان محور هذا الوجود لا كرامه له في هذا الشطر من شبه الجزيرة الكوريه ومن نافلة القول أن بعض الانظمه التي تدعي مراعاة حقوق الانسان والانفتاح تنتهج عقلية النظام الكوري الشمالي بطرق ملتويه وخفيه فلا كرامه لبشر ولا حجر