مرة أخرى، تنبثق خيوط شمس جديدة، من بلاد النهرين، وفي القلب من أرض النخيل، حيث عمم الوهم، بأن هويته العربية قد صودرت إلى الأبد. انطلقت الحركة الاحتجاجية بقوة من المحافظات الجنوبية، من الناصرية والعمارة والبصرة، لتنتشر كالهشيم في عموم المحافظات العراقية، مطالبة بإنهاء حقبة القسمة والإقصاء والتهميش والفساد.
وعلى نقيض ما خُطط للعراق، يؤكد العراقيون مجدداً تمسكهم بهويتهم العربية، التي استمدوا منها حضورهم التاريخي، لقد عمل الجبابرة على أن يكون العراق البوابة الرئيسية التي انطلق منها مشروع الشرق الأوسط الجديد، وأن يكون المختبر الأول للفوضى الخلاقة.
ولم يكن ذلك وليد لحظة غضب ارتبطت بحوادث (11 سبتمبر 2011)، والتي أعقبها الإعلان الأميركي عن حرب عالمية على الإرهاب، بل كان نتاج تخطيط استراتيجي طويل. لقد عبر استراتيجيون أميركيون، عن النية في إنهاء النظام الدولي الذي أنتج اتفاقية سايكس - بيكو، وإعادة تركيب المنطقة، وفقاً للهويات الثقافية والطائفية والإثنية.
في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، اعتبر العراق المحطة الأولى، لتحقيق ذلك، وحينها جرى الحديث عن بلاد السواد، باعتباره منطقة رخوة، تضم تشكيلات فسيفسائية، غير قابلة للاستمرار.
احتل العراق، من قبل الأميركيين، في أبريل/ نيسان 2003، واعتبر المحافظون الجدد هذا الاحتلال، مقدمةً لإخضاع المنطقة بأسرها، وأن النموذج السياسي الذي هندس له السفير الأميركي بول برايمر، والقائم على تقسيم العراق حصصاً بين الطوائف والأقليات، سيُجرى تطبيقه على بقية البلدان العربية.
لقد بدأ إفصاح إدارة الاحتلال، عن النية في تقسيم العراق إلى ثلاث دول، إثر احتلاله، انسجاماً مع ترتيبات القسمة. دولة كردية في الشمال، وشيعية في الجنوب، وسُنية في ما أُطلق عليه المثلث السني، ذكر ذلك في مشروع تقدم به نائب الرئيس الأميركي الحالي، الذي كان آنذاك، عضواً بالكونغرس الأميركي. وجرى التصويت على المشروع، من قبل الكونغرس، وووفق عليه، وصدر قرار غير ملزم به.
وفي أوائل شهر يونيو/حزيران من هذا العام، أعاد رئيس اللجنة العسكرية في مجلس الشيوخ النائب ماك ثورنبير مجدداً مطلب تقسيم العراق، حين طالب بإحالة المساعدات الأميركية مباشرة، للأقليات والطوائف بدلاً عن تقديمها للحكومة المركزية.
وخلال هذه الأيام، وقف رئيس هيئة الأركان المشتركة والمشرفة، المنتهية ولايته، الجنرال ريموند أود ييرنو، معلناً أن لا حلّ للمسألة العراقية إلاّ بتقسيم العراق، ليؤكد حضوراً قويّاً لفكرة التقسيم، في أجندة الساسة الأميركيين. وكان تصميم النظام قد تم بهياكل وأدوات تفتيتية، أهم ملامحها الطائفية والفساد، ومنع العراق من التقدم والبناء، والحيلولة دون الخروج من المحنة.
مر العراق بأكثر من اثنتي عشرة سنة عجافاً، شُرّد فيها ملايين العراقيين، خارج ديارهم، خوفاً من الاجتثاث والقتل، عدا عملية الإعادة المنهجية لتشكيل المدن الرئيسية، على أساس الهويات الطائفية، وبما يتطلبه ذلك من طرد وتهجير، ومورس القتل على الهوية، ونُهبت مئات المليارات من الدولارات من الخزينة العراقية، واعتمدت مشاريع وهمية لم ترَ النور، ذهبت كلها في جيوب الفاسدين والانتهازيين والمنتفعين، وبقي الشعب العراقي من دون أمل أو خلاص.
رفض شعب العراق احتلال بلاده، وأصر على ألّا تكون بلاده مختبراً لمشروع الشرق الأوسط الجديد، وبدأ بعد سقوط بغداد مباشرة مقاومة أسطورية، أكدت الحضور العريق لبلاد النهرين، وأرغم المحتل تحت وطأة المقاومة الشجاعة والأسطورية على الانسحاب. لكن تركة الاحتلال جثمت على رقاب العراقيين، متمثلة في العملية السياسية المقيتة، وفي الفاسدين الذين قدموا على ظهور دبابات الاحتلال، سارقي قوت الشعب ومستقبله، والذين طمسوا الهوية العربية للعراق، والذين يعبرون عن توجهات من خارج المكان.
لقد برر الأميركيون دعواتهم لتقسيم العراق، باستحالة تعايش السنة والشيعة في العراق، وجاءت الانتفاضة التي تستعر الآن في معظم مدن العراق وبلداته وقراه، لتؤكد زيف هذا التضليل، فالتهميش والتجويع في هذا البلد الغني بثرواته، والذي يتميز بعبور نهرين كبيرين فوق أرضه، وبأنه من البلدان التي تمتلك أكبر احتياطي للنفط في العالم، لم يستثن أحداً، ولم يميز بين شيعي وسني وكردي. أدرك العراقيون بحسهم العميق، أن المعاناة ليست حصراً في جماعة أو فئة أو مذهب أو منطقة، وإنما كانت معاناة شاملة، لكل العراقيين بمختلف مكوناتهم، تماماً كما ضمت قائمة الفاسدين، مسئولين من كل ألوان الطيف العراقي.
يعلن العراقيون بلغة عربية فصيحة، ليس فيها لبس، رفضهم تقسيم العراق، ويدركون أن محاسبة الجناة، والقصاص منهم، هي أول الطريق نحو بناء العراق الموحد، ودولته الحديثة، التي تقف في خندق واحد مع الأشقاء العرب.
وليس أمام الحكومة العراقية، سوى الاستجابة لنداء العراقيين، ومحاسبة الفاسدين، ومنعهم من مغادرة البلاد. وتأكيد استقلال وعروبة العراق، بعيداً عن الاستتباع للقوى الإقليمية والنزاعات الطائفية.
ما يحتاج إليه العراقيون، هو توفير العيش الكريم، وتأمين الكهرباء والسكن الصالح، والعلاج المجاني، وتأمين التعليم، والنهوض بالبلاد من كبواتها، وذلك لن يتم إلّا بإلغاء العملية السياسية، التي قسّمت البلاد بين الطوائف والأقليات. ولن تتوقف انتفاضة الشعب العراقي الباسل، إلّا بتحقيق أهدافه، وتأمين انتصاره لهويته العراقية، الهوية الوطنية الجامعة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4738 - الخميس 27 أغسطس 2015م الموافق 13 ذي القعدة 1436هـ
الخلل
انا عراقي و قارئ نهم عن تاريخ بلادي. أعاهدك سيدي بان العراق سيكون ارض الدم و القتل كما كان في الماضي و لا زال. الخلل في تكوين الشخصية العراقية و المغروسات في لاوعيه. لا يمكن قلع هذه أبدا أبدا.
اي والله صدقت أخوي
أنا مستغرب منكم العراقيين! شخصية لا تحب الإستقرار دائما تبحث عن الفتن و الفوضى و الثورة.