الشيخ وهبة الزحيلي. عِلْمٌ وعَمَلٌ فعَلَم. في العِلْم فإن الأسفار العديدة التي ألَّفها سواء إن كانت منفردة أو موسوعية وفي مختلف المجالات العقائدية والفقهية والتاريخية والقانونية والمالية واللغوية، وبعضها تُرجِمَ إلى عدة لغات كالتركية والفارسية، دالَّة على ما أقول.
في العَمَل، فإن أستاذيته في جامعة دمشق، وجامعة محمد بن علي السنوسي بمدينة البيضاء الليبية، وكلية الشريعة والقانون ورئاسة لجنة المخطوطات والثقافة العليا بجامعة الإمارات ثم في جامعة الخرطوم، وعضويته بالمصارف الإسلامية من البحرين حتى لندن وعشرات الأعمال الأخرى دالّة على ذلك.
أما كَعَلَم، فهذه الحكومة الماليزية تخصُّه في حفل بمدينة بوتراجايا قبل سنوات كأفضل شخصية إسلامية. ولو ضُمَّت ألقابٌ أخرى للراحل في التقديم حتى الختام لما وسع الكلام إلاَّ لها، دون أن يجد المرء صعوبة في ذلك، كون الواقع يُثبت ويُعِين على أنه عالِم عامِل وعَلَم كبير.
في الثامن من هذا الشهر، ارتحل هذا الفقيه البارز وعضو اتحاد علماء بلاد الشام، إلى الرفيق الأعلى وذلك في أحد مستشفيات دمشق عن عمر ناهز 83 عاماً، بعد عمر حافل من العطاء ومسيرة مَدْرَسية في الحكمة وسداد الرأي، والذي اتَّسَمت به شخصيته منذ نعومة أظفاره.
وهبة (الدّمشقي المولد والمنشأ والسَّمت) والزحيلي (الأصل) عن أجداده حين هاجروا من زحلة اللبنانية إلى سورية حين لم تكن هناك حدود معلومة بين البلدين (لبنان وسورية)، عاش ناطقاً حين كان للسان زكاة يجب أن تُخرَج. وعاش صامتاً حين كان الصَّمت ذهباً بل واجباً.
فقد عُرِفَ عنه ابتعاده عن السياسة والمهاترات في الإعلام، حيث لم يكن ميَّالاً للخوض فيها، لكنه كان يقول إنه عندما كان يُفسِّر القرآن الكريم في الإذاعة السورية ولمدة ثمانية أعوام قال كل ما يريد أن يقوله لكن بحكمة؛ كي لا يستثير أحداً. هو يُقدِّر ذلك كونه يعيش في بيئة لا ترحم.
وخلال لقاء تلفزيوني أجرِيَ معه قبل بضعة أعوام، دعا الناس إلى الابتعاد عن الانتقادات الصريحة التي تطمس هويتهم، معتزّاً بالقول الموروث: لو كان لي دعوة صالحة لدعوتها إلى حاكم، في إشارةٍ منه إلى ادّخار النصح إلى الحاكم مباشرة ودون واسطة أو وسيلة جماهيرية. وكان هذا ديدنه طوال حياته.
أتذكر أنني رأيته في أحد المؤتمرات قبل أكثر من عام وقصدته للسلام والسؤال عن أحواله، واستضافني رحمه الله في جناحه الذي يسكن فيه على رغم كبر سنه وتثاقل مشيه وكثرة انشغالاته، حيث كان بصدد إلقاء ورقته العلمية المطوّلة في المؤتمر.
وعندما سألته عن أحوال سورية أبدى ألمه الشديد مما يحصل فيها، لذلك اعتزل الحياة (وهذه الفتنة كما سماها) ولَزِمَ البيت، وكان لا يخرج منه إلاَّ للضرورة القصوى جدّاً. وكان حريصاً على ألا يبوح ولا يدلي بأي تصريح صحافي؛ لكي لا يُؤخذ أو يُجيَّر إلى غايات أخرى، فكان دقيقاً في كل كلمة يقولها. وهو ما جعل الجميع يُكبرونه ويُؤبّنونه ويعتبرونه صاحب قول معتدل وسديد.
في جانب آخر من شخصيته، كان الراحل عالم دين وحدويّاً لا يقبل الخطاب المُنفِّر والمفرِّق للمسلمين، فلم يكن يؤمن إلاَّ بوحدة الأمة وتعايش المذاهب والأديان، لذلك كانت له إسهامات في التقريب بين المذاهب الإسلامية والتقريب بين الأديان. وكانت له مؤلفات وبحوث في ذلك الشأن.
وقد شارك في العديد من المؤتمرات التي تدعو إلى ذلك في مختلف أنحاء العالم. كيف لا وهو تلميذ للإمام الأكبر محمود شلتوت الذي كان عَلَماً من أعلام التقريب في العالمين العربي والإسلامي. كما أنه كان تلميذاً لأساتذة أزهريين كبار كعبدالرحمن تاج وجاد الرب رمضان ومحمود عبدالدايم ومصطفى وعبدالغني عبدالخالق وعثمان المرازقي، وحسن وهدان ومحمد أبو زهرة وغيرهم، ممن ساهموا في بناء شخصيته المعتدلة والمتسامحة.
أما على صعيد العطاء التأليفي، فقد كانت للراحل مئات المؤلفات والبحوث التي رفدت المكتبة العربية والإسلامية، وفي مجالات عِدَّة. فقد كَتَبَ التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج الذي يقع في 32 جزءاً، والفقه الإسلامي وأدلته الذي يقع في 11 جزءاً.
وكَتَبَ وخرَّج وحقّق في أحاديث تحفة الفقهاء للسمرقندي، وجامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، وكَتَبَ في أصول الفقه بشكل معمّق وفي فقه المذاهب الإسلامية وفي نظرية الضرورة الشرعية والضمان والعقود والعقوبات والرخص والشورى والديمقراطية والذرائع في السياسة الشرعية والفقه الإسلامي والاستنساخ والعلاقات الدولية وحقوق الإنسان والقانون الدولي وفي الرجال، ومئات العناوين الأخرى التي زخرت بها أبحاثه.
وعندما ذهب إلى جامعة القاهرة في العام 1959، متعلماً في معهد الشريعة الإسلامية، تحصّل في نهاية مراتبه الأكاديمية على درجة الدكتوراه في فبراير/ شباط العام 1963، وكانت تحت عنوان: «آثار الحرب في الفقه الإسلامي»، حيث مازالت هذه الأطروحة إحدى أهم المراجع في هذا الموضوع، وإحدى الرسائل التي بادلت بها جامعة القاهرة برسائل أخرى في جامعات غربية. وكان عمره حين نالها 26 عاماً.
اليوم، والشيخ الزحيلي غائب عنا، يأسف المرء ألا يلقى رحيله صدى كبيراً، بل خجولاً هنا وهناك. وكان الأجدر أن يُعلَن الحِداد وتُنكَّس الأعلام في غير بلد إسلامي تقديراً لجهوده، لكن ذلك لم يحصل، على رغم أن منزلته محفوظة بغير ذلك. رحم الله الراحل، وجَبَرَ قلوب عائلته وطلابه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4737 - الأربعاء 26 أغسطس 2015م الموافق 12 ذي القعدة 1436هـ
رحمة الله عليه
قال رسول الله صل الله عليه وآله وسلم
ماقبض الله عالما إلا كان ثغرة في الإسلام لا تسد
رحم الله الشيخ الزحيلي
تفسيره للقرآن كان من أروع كتب التفسير
الله يرحمه
رحم الله العلماء جميعا و أسكنهم فسيح جناته واطال الله في عمر الباقين الموحدين