إذا كانت الثورة الصناعية قد حوّلت الإنسان إلى آلة، فإن عصر المعلوماتية والانترنت والحواسيب والتلفزيون والأعمال المكتبية قد حوّلته إلى كرسي، وبمعنى أدق يتخذ جسمه شكل الكرسي الجالس عليه لساعات طويلة.
وضعية الكرسي هي الأطول في حياة الإنسان العصري قياساً بالمشي أو الوقوف أو الاستلقاء، ويقرّر المختصون أن أكبر ثقلٍ يقع على الظهر حين يكون جالساً، ويورث الجلوس الطويل على الكراسي الأمراض العديدة، ولذا تتفنن شركات الأثاث في صناعة ما تسميه الكراسي المريحة، أو المقاعد الصحية أو المناسبة في مكاتب العمل والسيارات والبيوت وغيرها، إلا أن كل تلك الكراسي رغم حسن تصنيعها وجودتها وارتفاع أسعارها، لا تمنع مستخدميها من تحمل أعباء الجلوس الطويل، ولا من إصابة أصحابها بأمراض السمنة والظهر وتصلب الفقرات وتآكل العنق. فليست العبرة بجودة الكرسي وتلبيته للشروط الصحية فيه، إنما بعدد ساعات الجلوس التي يستسهلها الكثير منا فيغرقون في العمل وينسون أنفسهم على الكراسي.
من يتصوّر أن شاباً أو شابة صغيرة تصاب بمرض الديسك في بواكير عمرها؟ هذه الكراسي وهذه الوضعية لم يعرفها الإنسان القديم ولم يعرف أمراضها، ولقد تقلصت كثير من الأنشطة التي يمارسها الإنسان كالمشي والزراعة والفلاحة والصيد وغيرها من الأنشطة الميدانية، وحلّ محلها العمل الآلي والمهني المعتمد على الجلوس الطويل ولفترات مديدة.
كنت في إحدى عيادات العلاج الطبيعي مؤخراً حين التقيت شابةً صغيرةً في العشرين من عمرها، وقد تم إحضارها إلى العيادة على كرسي متحرك على وجه السرعة بعدما تصلّبت أعضاؤها وظهرها ورقبتها وأخذت شكل الكرسي تماماً! ويقول الطبيب المعالج إن مثل هذه الحالات صارت متكررةً في بلدنا.
قبل عدة أيام، وصل إلى حسابي على «الفيس بوك» فيديو ضمن حوارات تيد العالمية، ويتحدّث فيه بشكل علمي عن الأضرار المترتبة على الجلوس الطويل، وينصح أحد خبراء العلاج الطبيعي بوضع منبهات على أجهزة الهواتف والكمبيوترات للتنبيه بالمسارعة إلى التحرك فوراً، ومغادرة الكرسي كل 15 أو 20 دقيقة.
هل نتحدّث عن مساوئ الجلوس الطويل على الكرسي دون أن نعرج على المرض العربي القديم والمتجذّر والناجم عن الجلوس طويلاً على كرسي الوظيفة، وكرسي المكانة، وكرسي النفوذ، وكرسي الجاه وغيرها من الكراسي التي أورثت العالم العربي كل هذه المآسي السياسية التي نشهدها اليوم، وصرنا نصنف ضمن الدول التي تنافس عرش السماء!
حسب الفيلسوف كريشنا مارتي، فإن الرغبة في الأبدية والتمسك بها هي سبب كل مآسي البشر. نريد أبديةً في مناصبنا، وبقاءً أبدياً على كراسينا، ونطمح في أبدية في علاقاتنا، وأبدية في تجارتنا ونعيمنا. نريد الأبدية في كل شيء وفي أية مهنة، وفي أي مكان نحل فيه. فإذا لم تتحقق هذه الأبدية التي هي من صفات الآلهة وليس معقودةً للبشر، غادرتنا السعادة وفقدنا الأمل وتمترسنا خلف حلم العودة إلى الكرسي الضائع.
قبل عدة أيام، قدّم الدكتور محمد بوحجي محاضرة جميلة في مركز كانو الثقافي حول الإلهام ودوره في الاقتصاد، وجاء فيها أن الجلوس الطويل على كرسي الوظيفة الواحدة وغير المتجددة لا تورث غير الجمود والسأم والضجر، وتحول دون الإلهام والإبداع وتجدّد الأفكار والتغيير.
إذا أردت الصحة وحيوية التفاعل وتجدّد الحياة وتحفيز الإبداع، فتحرّك دائماً وانشد التغيير ولا تجلس على كرسيك طويلاً.
إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"العدد 4737 - الأربعاء 26 أغسطس 2015م الموافق 12 ذي القعدة 1436هـ
حب الدنيا رأس كل خطيئة
غادرتنا السعادة وفقدنا الأمل وتمترسنا خلف حلم العودة إلى الكرسي الضائع. واهم شيء الكرسي.
احم احم
موضوع الكراسي اللي ما تتحرك هذا موضوع معقد وفي زمنا هذا معقد بشكل اكبر التجارب في ليبيا ومصر واليمن ودول الربيع اثبت انه ما ممكن اتجيب واحد من الشارع واتقول ليه انت رئيس ؟
كان يفترض ان تكون احزاب تشارك في صنع القرار حتى تاخد الدرجة الثانية بعد الدولة او موظفي الدولة ويلغى شي اسمه انا اللهكم الاوحد ؟
لكل زمان حيله
منذ تأسيس اول مجتمع مدني و القادة يخلقون وسيلة لقيادة الخلق علي هواهم. اليوم هناك الكثير و الكرسي و حب الجلوس عليه و الاحتفاظ بمقعده احد الأمور.