لهذا العنوان قصة. فقبل أسابيع، وخلال تظاهر للمعارضة في اسطنبول، وَجَدَ مصوِّر وكالة الـ AFP أوزان كوشي فرصة كي يلتقط صورة جميلة لصبي مرفوعاً على الأكتاف، وهو يحمل لافتة خضراء مؤطَّرة، مكتوب عليها باللغة التركية هذه العبارة: Saray sava halklar barı istiyor، وأسفلها رسمٌ لطائر. وترجمتها بالعربية هي: «القصر يريد الحرب والشعب يريد السلام».
الحقيقة أن العبارة كانت لافتة. وهي وإنْ انطَوَت على أبعاد سياسية «قد» ترفعها المعارضة التركية، إلاَّ أن جوهرها ليس بعيداً عن واقع الأحداث في تركيا. فهذا البلد الجميل الذي تعيش فيه العديد من الإثنيات والعرقيات، بالإضافة إلى 165 شكلاً من الفئات الدينية يعيش ظروفاً صعبة، سواء على مستوى التوافقات الداخلية أو مخاطر الأمن القومي من عمليات إرهابية وخلافها.
وإذا ما أردنا الواقع، فإن تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية كانت قد نقلت البلد خلال السنوات العشر الأولى إلى مراتب اقتصادية وحقوقية متقدمة، وبالتحديد تسوية الملف الكردي العام 2013 بعد ثلاثين سنة من الصراع. وكان كل ذلك محلّ إشادةٍ من الجميع، إلاَّ أن انفجار الوضع في سورية، ودخول الجهوية على السياسة التركية، قد جعلا تلك الأوضاع تتراجع أو تتأثر.
ولو دقّقنا في كل تلك التراجعات، لرأينا أنها حصيلة لمِخرَزٍ واحد، وهو الأزمة في سورية، التي تدفّقت منها كل المشاكل الأخرى. فانهيار التسوية مع الأكراد، كانت نتيجةً للأزمة السورية بشكل تتابعي. فحكومة أنقرة، أساءت تقدير ميزان التأثير المتبادل ما بين أكراد تركيا وأكراد سورية، حيث دفعها غضبها من توسّع الأكراد السوريين في مناطق عين عيسى ومحيط الرقة لأن تُصعِّد الموقف ضدَّهم، وتعيد شكل تدخلها في سورية بطريقة وأخرى، الأمر الذي سَمَحَ لمقاتلين متطرفين لأن يَلِجوا الأراضي التركية ويقوموا بما قاموا به في مدينة سوروج، ليقتل اثنان وثلاثون كردياً، الأمر الذي اعتبره «حزب العمال الكردستاني» أنه لم يكن ليحصل لولا تسهيلات قام بها الأمن التركي، وسمَّى اثنين من الشرطة وانتهى الأمر بمقتلهما اغتيالاً ليتفجَّر الوضع.
والجميع يعلم، أن الحرب الأهلية في تركيا قد خلَّفت أربعين ألف قتيل، وهي إذا ما اندلعت مرةً أخرى، فإنها لن تكون بالضرورة مادةً جيدةً للفوز في الانتخابات في كل مرة، بل إن حرارة الدَّم تجعل الناخب في أحيان كثيرة لأن يُفضِّل استبدال القيِّمين على السياسة علّ الجدد يأتون لهم بحل، فضلاً عن الضرر الاقتصادي الذي وصل خلال حرب الثلاثة عقود إلى مئة مليار دولار وتأثيره على الناس.
يُضاف إلى كل ذلك، أن تركيا تجازف بما تبقى لها من علاقات مع الأكراد في العراق، الذين سيجدون أنفسهم في موقف قومي صعب، تجاه القضية الكردية في كل من تركيا وسورية. وإذا ما خسرت أنقرة علاقاتها مع أكراد العراق، وهي التي أنفقت في سبيل بنائها مليارات الدولارات، فإن بوابتها نحو العراق ستتضرّر كثيراً، وهو ما سيزيد المشكل التركي في ظل انعكاسات ذلك على الداخل سياسياً واقتصادياً.
المشكل الآخر الذي جاء لتركيا من مِخرَز الأزمة السورية، هو التناقض الذي أصبح واضحاً ما بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية (ليس على مصير الأسد والمنطقة العازلة واللاجئين) بل على بنك الأهداف في سورية. ففي الوقت الذي أرادت فيه واشنطن من استخدامها لقاعدة «إنجرليك» أن تضرب الإسلاميين المتطرفين ومساعدة الأكراد السوريين على توسيع حدودهم على حسابهم، صار الموقف التركي مغايراً لذلك تماماً. فقد أدخل الأتراك الأهداف الكردية التي تلقى دعماً أميركياً في المعركة، مع مواجهة استحلابية ضد المقاتلين المتطرفين في خمسين كيلومتراً داخل الأراضي السورية.
فالأتراك قد لا يرون في «داعش» صديقاً، لكنهم يؤمنون بأنها الأقدر على قضم حكم الرئيس السوري بشار الأسد كما حصل في تدمر، وعموم المناطق الوسطى والصحراوية من سورية. في حين يرى الأميركيون أن الأكراد السوريين أظهروا بأساً أكثر من أي فصيل آخر بما فيه «أحرار الشام» و»الفتح» وحتى «النصرة» في قتال التنظيم الشرس، وبالتالي يصبح دعمهم مهماً، كما جرى في العراق، عندما دُعِمَ البيشمركة في الشمال بعد انهيار الموصل وظهور أزمة الأيزيديين. هذا الأمر خلط الأولويات، وجعل من رَمْيَة الطرفين تختلفان في الأهداف، الأمر الذي عقَّد الأمور.
المشكل الثالث، الذي أفرزته الأزمة السورية هو تفاقم الخلاف بين الأحزاب القومية وبين «حزب العدالة والتنمية» ذو التوجهات الإسلامية. فالأحزاب القومية عندما عكَّرت فوز الراحة للعدالة، ثم دخلت معه في مشاورات تشكيل الحكومة، كان هدفها الأول هو تغيير دفّة السياسات الخارجية والعسكرية والأمنية تجاه سورية ومصر، وهو ما جعل الجهود تفشل في تحقيقها ويتم الدعوة إلى انتخابات مبكرة، حيث يأمل الإسلاميون أن يُحققوا فيها فوزاً أفضل من وحي الحرب المندلعة.
المشكلة في ذلك ليس في عدم تشكيل الحكومة ثم نيل نتائج أفضل في الانتخابات، بل المشكلة هي أن الأحزاب القومية في تركيا تتشكل تاريخياً من الأقليات رغم علمانيتها، وبالتالي فإن استبعادها يعني أن الدولة لن تصبح ميثاقية وتركيا تخوض حرباً مزدوجة، وهذه مشكلة تؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي التركي، في ظل تغييب أطراف سياسية لها جذور اجتماعية في المجتمع التركي المتباين في توجهاته العرقية والطائفية والسياسية.
هذه هي المشكلات التركية المستعصية في الوقت الراهن.
العدد 4734 - الأحد 23 أغسطس 2015م الموافق 09 ذي القعدة 1436هـ
بالامس
المعارضة التركية بالامس اتهمت اردوغان بانه يقوم بانقلاب مدني ضدها