«أقضي ساعة أحذف سطوراً وأضيف أخرى. شيء آخر عليَّ القيام به؛ وخصوصاً عندما أكون على وشك الانتهاء من كتابي، هو النوم وفي الغرفة نفسها مع أوراقي. أؤمن أنه وبطريقة ما أن الكتاب لا يغادرك حين تكون نائماً بالقرب منه».
جزء من حوار للروائية وكاتبة السيناريو الأميركية جوان ديديون، في العام 1968. تستكشف روايات ومقالات ديدون التفكُّك في الأخلاق الأميركية، والتشوُّش الثقافي؛ حيث تبحث موضوعاتها الرئيسية، حالات الهشاشة الفردية والاجتماعية، كما يتخلَّل أعمالها الكثير من شعور القلق أو الخوف.
قال عنها كاتب السيرة الأميركي تريسي دورتي، ضمن ما كتبه في نص سيرتها الذاتية «آخر أغنية حب»، بأن القسوة في كتاباتها تحوَّلت إلى علامة تجارية.
ولم تكن الصحف الأميركية الكبرى بمنأى عن عالمها وأعمالها، من بينها صحيفة «نيويورك تايمز» عبْر وحْدة مراجعات الكتب تناولاً لـ «ليالٍ زرقاء»: «يأتي هذا الكتاب من واحدة من أكثر كتَّابنا قدرة وقوَّة. يأتي عملها مليئاً بالصراحة المذهلة حول فقدان ابنةٍ.
مُحْكَمة وغنيَّة بذكريات طفولتها وحياتها رفقة زوجها، جون غريغوري دان، والابنة، كوينتانا رو. هذا الكتاب الجديد لجوان ديديون، هو قيمة شخصية مكثفة لانتقالات أفكارها، والمخاوف، والشكوك بشأن إنجاب الأطفال، المرض والتقدُّم في السن.
كما أنها تعكس في الكتاب حياة ابنتها ودورها كأم. ديديون تصارع الأسئلة الصريحة التي يواجهها جميع الآباء والأمهات، وتتأمل في ما وصلت إليه من عمر، وهو ما تجد أنه من الصعب الإحاطة به؛ ناهيك عن قبوله».
ميشيكو كاكوتاني، كتبت مراجعة في صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الاثنين (17 أغسطس/ آب 2015)، حملت عنوان: «آخر أغنية حب... السيرة الذاتية لجوان ديديون» شكَّلت ضلعاً مهما في المراجعة التي تقدِّمها «الوسط» مشفوعة بالهوامش والإحالات التي اعتمدت عليها؛ سواء من خلال لقاءات سابقة؛ أو من خلال بعض ما كُتب عن ديديون هنا وهناك. هنا جانب من مراجعة كاكوتاني مع هوامشها لابد منها.
هشاشة الحياة... الأسلاك... الأسبرين
الخسارة... الحنين إلى الماضي الذي ذوى و»الخطر اليومي الذي لا يُوصف» كل ذلك يتمثَّل في «بِرَك السباحة، أسلاك التوتر العالي، الأواني تحت المغسلة، والأسبرين في خزانة الأدوية» - هذه هي المواضيع التي تحرِّك عمل الروائية وكاتبة السيناريو الأميركية جوان ديديون (80 عاماً) منذ «التراخي نحو بيت لحم»، والتي شكَّلت مثالاً لما يُعرف وقتها بـ «الصحافة الجديدة»، من خلال مهمة صحافية تتميَّز في أسلوبها بالجمع بين مهمة في تغطية أحداث قائمة، مع فن السرْد؛ ما يجعل من صياغاتها قصصاً حقيقيةً يمكن التعامل معها وقراءتها لأنها متاخمة للعالَم الروائي. أسَّست أعمالها لتكون واحداً من الأصوات الأدبية الأكثر تميزاً في أميركا منذ ما يقرب من خمسة عقود.
كل مخاوفها بشأن هشاشة الحياة تحققت بفظاعة في ديسمبر/ كانون الأول 2003، عندما ذهبت ابنتها، كوينتانا رو، إلى مستشفى في نيويورك لإصابتها بحالة واضحة من الأنفلونزا، بعدها كانت مُمدَّدة وهي فاقدة الوعي في وحدة العناية المركزة، وتم تشخيص حالتها بأنها التهاب رئوي، وما يعرف بالصدمة الانتانية (Septic shock، وهي حالة تحدث نتيجة انخفاض التروية الدموية للأنسجة، ونقل الأوكسجين نتيجة عدوى وإنتان، وعلى رغم أن الميكروب يمكن أن يكون منتشراً أو متموضعاً في مكان بالجسم، يمكن أن تؤدي هذا الحالة إلى الإصابة بمتلازمة فشل الأعضاء المُتعدِّد والموت). بعد أيام، كان زوجها جون غريغوري دان، البالغ من العمر 40 سنة، جالساً لتناول وجبة العشاء، لكنه انهار ومات جرّاء نوبة قلبية. تموت الابنة كوينتانا بعد عام ونصف العام من موت زوج ديديون، وهي في سن التاسعة والثلاثين.
تأمّل الحياة والموت
ديديون هي الآن في الثمانين من عمرها، أرَّخت كل تلك الأحداث في كتابين: «عام التفكير السحري» وصدر في 2005، وفيه تتبُّع لمسار من تحطيم التأمُّل في الخسارة والحزن والأسى، و «ليالٍ زرقاء» وصدر في العام 2011، وهو الآخر شكل من التأمل أكثر نصوعاً يتناول حياة وموت ابنتها. وأكثر من ذلك، أرَّخت حياتها في أعمالها الأخرى: انهياراتها العصبية، حالات المد والجزْر في حياتها الزوجية، القلق الذي عانت منه، أمراضها، حنينها لتحقيق الاستقرار.
في «آخر أغنية حب»، يتوجَّه كاتب الخيال ومؤلف السيرة الذاتية التي عرفت بانتقاداتها اللاذعة، والتي وضعها لكل من دونالد بارثيلم وجوزيف هيلر، تريسي دورتي، دون أن يتمكَّن من تجنب كتابات ديديون الخاصة في الوقت نفسه، ليضع كتابه، في محاولة لرسم صورة تفرِّق بين حقيقة حياة ديديون، وشخصيتها الأدبية، بين تجربتها كابنة، وكاتبة وزوجة وأم، وما يصفه بالقسوة التي هي بمثابة «علامة تجارية لأعمالها».
يشار إلى أن دونالد بارثيلم، كاتب اميركي، ومن أهم كتّاب القصة القصيرة ضمن تيار ما بعد الحداثة. من مواليد 7 أبريل/ نيسان 1931، وتوفي في 23 يوليو/ تموز 1989.
عمل كمراسل لصحيفة «هيوستن بوست»، كما عمل مدير تحرير لمجلة «الموقع». مدير متحف الفنون المعاصرة في هيوستن للفترة ما بين 1961 و 1962. عمل أستاذاً في عدد من الجامعات. كما أنه واحد من المؤسِّسين الأوائل لبرنامج الكتابة الإبداعية في جامعة هيوستن.
أما جوزيف هيلر، فهو من مواليد الأول من مايو/ أيار 1923، وتوفي في 12 ديسمبر 1999. روائي أميركي، وله شعر هجاء، واشتهر بكتابة القصة القصيرة وله تجارب في المسرح. من أهم أعماله رواية «كاتش -22»، والتي اختيرت ضمن أفضل مئة رواية مكتوبة بالإنجليزية.
العبثية... الأمومة
يلاحظ،على سبيل المثال، أن ديديون كتبت في «ليالٍ زرقاء» عن أنها ظلت تفكِّر في إلحاق كوينتانا بها، كما كتبت عن الرضاعة، وتناولت جانباً من التجربة وهي معها في مهمة إلى سايغون خلال حرب فيتنام؛ ما يعني أنها كانت غير مستعدَّة لأن تكون أمَّاً بمثل تلك العبثية التي لم تُحقق لها مثل هذا التعهُّد الذي لم يحدث.
كتب دورتي، بأن ديديون كانت أي شيء ولكنها جاهلة «كانت صلبة... فولاذية في الجانب المهني، ولم تكن لتترك دور الأمومة يقف في طريق حياتها المهنية». كانت حقيقة بسيطة وهي، أن تبنّي كوينتانا لم يتم وضع اللمسات الأخيرة له و»أنه لا يمكن نقلها خارج الولاية، وإمكانية نقلها خارج البلاد تظل أقل بكثير».
ديديون تظهر في «آخر أغنية حب» واهية وتعاني القلق بشكل ظاهر. أسْماها «داهية هوليوود»، والعارفة ببواطن الأمور في نيويورك، والشاهدة غير المُحصّنة على التاريخ، وهي واحدة من الناجين الصارمين. كما يُلفت الكاتب الانتباه إلى الجانب المسرحي من موهبتها، ويسلِّط الضوء على جوانب من التطرُّف الذي لم تخْلُ منه.
دورتي، الذي لم يجد تعاوناً من ديديون، كجزء من كتابة السيرة، وبحسب ميشيكو كاكوتاني، يقوم بعمل رشيق هنا من خلال دراسة كيف أن موضوع الحياة أضاء الفترات الزمنية التي اجتازتها ديديون (والعكس صحيح). إنه يستخدم تجربتها، بقدر ما فعلت ديديون نفسها، في مؤشر على ما يمكن تسميته بالتشنُّجات الثقافية التي هزَّت البلاد خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ في الوقت الذي تم فيه استخدام أساليبها الأدبية والحسِّ الموسيقي للغة التي تكتب بها لتقديم صورة عن حال ترحالها بين كاليفورنيا ونيويورك، وتطوُّرها الفكري على مدى سنوات.
الرقص بعصبيَّة
هنالك عدد قليل من الهفوات التي لا طعْم لها وفائضة ضمن مساحة القيل والقال في الكتاب - في حالة منها - يلمح دورتي إلى أن مصدر الملاحظات «ينبغي أن يؤخذ مع جِرار كبيرة من الملح»، في إشارة هنا إلى مساحة خاصة من حياتها، لم تتناولها ديديون في أي من كتبها أو لقاءاتها الصحافية، وهي التي عرفت بصراحتها المفرطة. يرقص دورتي بعصبية (ولكن ليس بالعصبية التي كانت عليها ديديون) حول موضوع الصعوبات العاطفية لكوينتانا والإدمان على الكحول، نقلاً عن صديق مقرَّب قال، إن حالات الكآبة والإفراط في الشرب «ربما تتداخل» مع مرضها الأخير (التهاب البنكرياس الحاد) وكما كتب دورتي: «عادة ما يصاب به الشباب بسبب تعاطيهم المخدرات لفترات طويلة، أو تناولهم الكحول».
بالنسبة إلى معظم الأجزاء، تبقى هذه السيرة العميقة والطموحة أكثر تركيزاً على كتابة ديديون، وذلك باستخدام تفاصيل حياتها لتسليط الضوء بقوة على سيرتها الذاتية.
على رغم أن القرَّاء قد لا يتفقون مع كل تقييمات واستنتاجات دورتي التي استقاها من كتب ديديون كل على حدة، فإن سيرته الذاتية تبرهن على تقديره العميق لمهاراتها وخصوصياتها، وفهم كيف أن كتَّاباً مثل كونراد، همنغواي وأستاذها في الجامعة البروفيسور مارك شوير، شحذوا وعيها على الفروق النصيَّة الدقيقة واستخدام وجهة نظرها، وساعدوها على صوغ أسلوبها الفريد. دورتي يشرح خبرة انشغال ديديون مع الروايات - ليس فقط مع تقنيات القص، ولكن أيضاً مع العناوين الفرعية; وذلك الربْط المتسلسل لخطوط القصة الذاتية والسياسية المُحدَّدة والتي تَسِم عملها.
ضوء ديديون
ولدت ونشأت المؤلفة الأميركية التي اشتهرت برواياتها وكتاباتها الصحافية الأدبية، جوان ديديون، في ساكرامنتو بولاية كاليفورنيا، من والدين: فرانك ريس وإدوين (ني جيريت) ديديون، في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1934. تستكشف رواياتها ومقالاتها التفكُّك في الأخلاق الأميركية، والتشوُّش الثقافي؛ حيث تبحث موضوعاتها الرئيسية والأبرز، حالات الهشاشة الفردية والاجتماعية. يتخلل أعمالها الكثير من شعور القلق أو الخوف.
تتذكَّر ديديون كتابة بعض الملاحظات عن أمور في وقت مبكِّر من حياتها، وتحديداً في سن الخامسة، على رغم أنها تقول إنها لم ترَ نفسها ككاتبة إلا بعد أن نشرت أعمالها.
قرأت كل ما يمكن أن يتوافر بين يديها بعد أن تعلَّمت القراءة، وكانت تحتاج إلى الحصول على إذن مكتوب من والدتها لاستعارة الكتب المخصَّصة للكبار؛ وخصوصاً السيَر الذاتية، من المكتبة في سنٍّ مبكرة. ومع هذا، قالت مُعرِّفة عن نفسها بأنها «الطفلة الخجولة التي تحب الكتب»، وهي التي دفعت نفسها للتغلُّب على القلق الاجتماعي من خلال التمثيل والخطابة.
عندما كانت طفلة، التحقت ديديون برياض الأطفال والصف الأول، على رغم أن والدها كان في سلاح الجو في الجيش خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت أسرتها في حال من التنقل الدائم. وقالت إنها لم تكن تذهب إلى المدرسة في صورة منتظمة.
في العام 1943 أو في مطلع العام 1944، استقرَّت عائلتها مرة أخرى في سكرامنتو بولاية كاليفورنيا، فيما ذهب والدها إلى مدينة ديترويت لتسوية عقود الدفاع في الحربين العالميتين: الأولى والثانية. كتاب ديديون وهو عبارة عن مذكرات صدرت في العام 2003 «من حيث كنت»، يتناول حالات تنقُّلها في أحايين كثيرة كما هو الحال مع عائلتها؛ ما جعلها تشعر وكأنها غريبة باستمرار.
في العام 1956، تخرَّجت ديديون في جامعة كاليفورنيا - بيركلي، وتحصَّلت على درجة البكالوريوس في آداب اللغة الإنجليزية. خلال سنواتها المتقدمة، حصلت على المركز الأول في مسابقة المقال برعاية مجلة «فوغ»، مع جائزة عبارة عن وظيفة في المجلة نفسها.
لمدة سنتين في مجلة «فوغ»، شقَّت ديديون طريقها صعوداً من كاتبة ترويجية إلى مساعدة محرر في أحد أبواب المجلة. عادت إلى كاليفورنيا رفقة زوجها الجديد، الكاتب جون غريغوري دن، وفي العام 1968؛ حيث نشرت أول عمل غير قصصي لها: «التراخي نحو بيت لحم»، وهو مجموعة من المشاهدات والمعاينات كتبتها للمجلة عن تجربتها في ولاية كاليفورنيا، وقد صيغت في شكل وتسلسل درامي.
في العام 1979، نشرت كتابها «ألبوم أبيض»، وهو عبارة عن مجموعة تتناول مشاهد من الحياة، كتبت للمجلة، ومن بعده «المُبجَّل»، «بريد مساء السبت»، ونشرت في «نيويورك تايمز»، و «نيويورك لمراجعات الكتب».
كتابها «إلعبها كما تأتي»، تحول إلى عمل سينمائي أنجز في هوليوود، ونشر في العام 1970، و «كتاب الصلاة المشتركة»، ونشر في العام 1977. كتبت مقالها «سلفادور»، بعد رحلة استمرت أسبوعين إلى السلفادور مع زوجها. كما نشرت كتابها «الديمقراطية» في العام 1984، والذي تروي فيه قصة علاقة حب طويلة ولكن من دون مقابل، بين وريثة ثرية ورجل كبير السن، يعمل ضابطاً في وكالة المخابرات المركزية الأميركية، اتكاء على خلفية الحرب الباردة وحرب فيتنام.
أصدرت كتاباً غير قصصي في العام 1987 «ميامي»، وفيه تأملات ونظرة إلى الجالية الكوبية في مدينة ميامي. في العام 1992، أصدرت «بعد هنري»، وهو مجموعة من 12 مقالاً جغرافياً. وفي العام 1996، نشرت «الشيء الأخير الذي أراده»، وهو قصة رومانسية مثيرة.
عمل كل من دان وديديون معاً بشكل وثيق في أغلب حياتهما المهنية، بل إن الكثير من كتاباتهما متداختلان ومتشابكتان. مع دن، شاركت ديديون في كتابة عدد من السيناريوهات، كما قضت ودان ثماني سنوات في تحويل سيرة الصحافية جيسيكا سافيتش إلى فيلم حمل عنوان «عن قرب وشخصي». لا تترك ديديون مجالاً يمكن لها أن تلعب فيه دوراً إلا وخاضت تجربته باطمئنان، مادام مرتبطاً بالفن. كانت خطوة جريئة وغير متوقعة من قرَّائها، وحتى الذين هم على ارتباط بعالم الموضة. هل قلت الموضة؟ نعم ذلك ما فعلته في اتفاق مع ماركة Céline الفرنسية التي عرضت مجموعتها لربيع وصيف العام 2015؛ ليس فستاناً أو كنزة؛ بل عدسة «يورغن تيلير».
العدد 4733 - السبت 22 أغسطس 2015م الموافق 08 ذي القعدة 1436هـ