تناولنا في الفصل السابق أهمية نوع معين من الكيزان وهو Hexaplex kuesterianus، وقد سبقت الإشارة إلى أنه ربما كان يستخدم في البحرين قديماً في تحضير صبغة أرجوانية خاصة. كذلك، فإن هذا النوع من الكيزان معروف على سواحل الخليج العربي بأنه من الأنواع التي تؤكل، وقد ورد ذكره في الأمثال الشعبية؛ فيقال «الكوز حصاه لذته في أگصاه». ويقصد بهذا المثل أن الكوز الجيد الطعم هو ذلك الكوز الذي يوجد في أعماق البحر، ويضرب المثل في الحث على المثابرة في العمل؛ فكلما بذلت جهداً أكثر كانت هناك لذة أكثر في النتائج التي تتحصل عليها.
وقد كانت الكيزان، وأنواع أخرى من القواقع والأصداف، تقدم للعاملين على سفن الغوص وفي الرحلات البحرية الطويلة، ولم تكن من الأكلات المستساغة لديهم. إلا أن عدم وجود أي أكل آخر يجعل لهذه القواقع طعماً لذيذاً، بل إن أي طعام يقدم أثناء هذه الرحلة يكون لذيذاً، حتى قالوا في أمثالهم «الشيص في الغبة حلو». أي أن الشيص، وهو أرذل الرطب، الذي ينتج بدون تلقيح للنخلة، يصبح طعمه لذيذا في وسط البحر، وكذلك الكيزان، كلما ابتعدت عن الشاطئ كان طعمها لذيذاً.
ولا تنحصر أهمية الكيزان في كونها مصدراً للغذاء، فقد عثر على العديد من آثارها، ليس فقط في المواقع التي تعود لحقب دلمون، بل كذلك المواقع الأثرية التي تعود للحقب الإسلامية، وبالخصوص بالقرب من مسجد الخميس. وقد سبق أن ذكرنا، في الحلقة السابقة، أن هناك من يشكك في أن الكوز كان يستخدم في تلك المواقع كمصدر للغذاء فقط، مما يجعل المجال مفتوحا للبحث في صناعات أخرى يستخدم فيها الكوز وكانت رائجة في العصور الإسلامية، وربما أيضاً في الحقب الدلمونية، وقد سبق الحديث عن تحضير الصبغة الأرجوانية من حيوان الكوز. في هذه الحلقة سوف نتناول صناعة أخرى كانت رائجة في البحرين القديمة ولها علاقة بالكوز؛ حيث اشتهرت البحرين قديماً كمصدر لنوع من الأدوية التي يُتبخر بها والتي تعرف باسم «الأظفار» والتي تأخذ من «الكوز».
«الكوز» وتحضير أظفار الطيب
الظفر وجمعها أظفار وهو غطاء شبيه بالقرص الدائري تستعمله الحيوانات الرخوية التي تعيش في القواقع وذلك لغلق فتحة القوقعة، ويعرف الظفر في الكتب العلمية باسم operculum. وقد اشتهر ظفر حيوان الكوز، وأنواع أخرى من نفس عائلة الكوز وهي عائلة المرَّيق (Muricidae)، والتي توجد في الهند وسواحل الخليج العربي، وربما استخدمت أنواع من القواقع من غير هذه العائلة. وقد عرفت أظفار الكوز باسم «أظفار الطيب»، وهذا الغطاء يتم حرقه والتبخر بدخانه كنوع من الأدوية. هذه الأظفار لازالت معروفة على سواحل الخليج العربي، حتى أن القوقعة التي يؤخذ منها الظفر لازالت تعرف باسم لون ظفرها فهناك «كوز بو ظفر أسود» وكوز بو ظفر أحمر». ويرجح أن أظفار حيوان الكوز قد تم استعمالها منذ الألف الثاني قبل الميلاد؛ فالكوز كان حينها يستخدم لاستخلاص الصبغة الأرجوانية من غدته الظهرية وفي نفس الوقت يستخدم ظفره، هذا وقد تم العثور على كميات من ظفر حيوان الكوز وذلك في حطام سفينة فينيقية عثر عليها في البحر المتوسط بالقرب من تركيا (Mienis 2000).
وقد نقل ابن البيطار في كتابه «مفردات الأدوية والأغذية» وصفاً لأظفار الطيب نقلاً عن ديسقوريدوس (40 – 90م):
«ديسقوريدوس في الثانية: هو غطاء صنف من ذوات الصدف، وهو شبيه بصدف «الفرفير» يوجد بالهند في البلاد القائمة المياه المنبتة للناردين، ورائحته عطرية لأن هذا الحيوان يرتعي الناردين ويجمع إذا جفت المياه في الصيف، وقد يؤتى بشيء منه يوجد على ساحل القلزم، ولونه إلى البياض ما هو دسم، وأما الذي يؤتى به مما يوجد على ناحية بابل فإن لونه أسود وهو أصغر منه وكلاهما طيب الرائحة إذا بخر بهما كان في رائحتهما شيء يسير من رائحة جندبادستر، وهذان أيضاً إذا بخر بهما النساء اللواتي عرض لهن اختناق من وجع الأرحام نفعهن، وينفع الذين يصرعون، وإذا شربا لينا البطن، وهذا الحيوان إن أحرق كما هو فعل مثل ما يفعله قرقوراً والقروقس».
والفرفير الذي ذكره ديسقوريدوس في الأصل هو purpura عربه ابن البيطار إلى الفرفير، ولايزال الاسم purpura متعارف عليه حتى يومنا هذا كاسم جنس لأحد القواقع من نفس عائلة الكوز أي عائلة muricidae.
وتسمي العرب الحيوان الذي يؤخذ منه الظفر باسم «الدَّوْلَعَةُ»، جاء في معجم تاج العروس (مادة دلع):
«الدَّوْلَعَةُ: صَدَفَةٌ مُتَحَوِّيَةٌ، إِذا أَصابَهَا ضَبْحُ النّارِ خَرَجَ مِنْهَا كهَيْئِة الظُّفُرِ، فيُسْتَلُّ قَدْرَ إِصْبَعٍ، هذا الأَظْفَارُ الَّذِي في القُسْطِ، وأَنْشَدَ لِلشَّمَرْدَلِ:
دَوْلَعَةٌ تَسْتَلُّها بِظُفْرِها».
أما الدميري في كتابه «حياة الحيوان الكبرى» فقد أسماها «عطار».
شهرة أظفار الطيب البحرينية
لقد اشتهرت البحرين قديماً كمصدر لنوع من «الأظفار» الذي يستخدم كدواء يتبخر به، والمرجح أن مصدر هذه الأظفار هو «الكوز» Hexaplex kuesterianus، وقد خص يحيى بن ماسويه (777م – 857م) أظافر البحرين بالذكر لأنها الأشهر والأكثر جودة، ونص ما جاء في كتاب ابن ماسويه «جواهر الطيب المفردة بأسمائها وصفاتها ومعادنها»:
«الأظفار أجناس فمنها الماشماهية يؤتى بها من البحرين وهي أجودها تدخل في الدُخَن... وهي قشور دابة في البحر بمنزلة الأصداف ملتزقة بلحم فتنصل في مواضعها وهي إلى الحمرة... تكون بساحل جدة وناحية البحرين وهي تعالج بعد سلق بشيء تغمس فيه فتطيب» (ص 42 بحسب ترقيم مخطوطة مكتبة جامعة لايبزيك www.refaiya.uni-leipzig.de).
وقد ذكرنا في الفصل السابق العثور على كميات كبيرة من بقايا قواقع «الكوز» بالقرب من مسجد الخميس والتي تعود للفترة ما بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلادي، أي في نفس الحقبة التي اشتهرت فيها البحرين بتصدير أنواع من «الأظفار». كذلك، سبق أن ذكرنا أن بقايا الكوز عثر عليها في المواقع الأثرية التي تعود لحقبة دلمون. فهل كانت هذه الأظفار تصنع منذ الحقب الدلمونية؟، واستمرت الصنعة حتى الحقب الإسلامية؟. بالطبع لا يمكننا الإجابة، ولا يمكننا الجزم بمدى شهرة البحرين بتحضير «الأظفار»؛ لأننا لازلنا نحتاج للمزيد من الدراسات الأثرية المتخصصة لدراسة بقايا الأصداف، كماً ونوعاً، وتحديد الصناعات الصدفية التي كانت موجودة في الحقب الدلمونية، والحقب اللاحقة.
الخلاصة، دراسة القواقع والأصداف تكشف عن العديد من الخبايا التاريخية، والخبايا المختزلة في الذاكرة الشعبية، كشفنا جزءاً بسيطاً منها، وبقي العديد من الخبايا التي سوف نحاول الكشف عنها في الحلقات المقبلة.
العدد 4732 - الجمعة 21 أغسطس 2015م الموافق 07 ذي القعدة 1436هـ