رواية تتناول ديناميكيات السلطة. شخصيات تبدو مُهمَّشة وغير ضرورية. رواية «نقاء» تبحث كل ذلك، كما تبحث تحوُّل الإنترنت إلى سلطة غير حكومية. عن لعبة التسريب تتحدث، في جانب من أحداثها. يحضر أسانج وسنودن، في لعبة سرْد فيها من التداعي الكثير عبْر الأحداث الدرامية.
ذلك ما كتب جانباً منه، تعليقاً على الرواية، الناقد الفني والصحافي بنيامين ماركوفيتس، يوم الخميس (6 أغسطس/ آب 2015)، في صحيفة «الإندبندنت».
لم يتصدَّر الروائي الأميركي جوناثان فرانزين، غلاف مجلة «TIME» بفعل العلاقات العامة. تصدَّره بفعل الأثر الذي خلَّفه في المسار الروائي الأميركي اليوم، باعتباره واحداً من الأسماء الفاعلة والمهمة المعاصرة في هذا المجال، وباعتباره أيضاً صاحب فكر خلَّاق وناقد بمسئولية وعمق. روايتاه: «التصحيحات» و»الحرية»، تكشف عن المسار العميق الذي اختطه؛ ليس على مستوى البناء الروائي واللغة التي يكتب بها؛ بل على مستوى النفاذ إلى وعي شرائح كبرى، والنقد لجوانب من مسار أميركا الحالي في تعاطيها مع قضايا وملفات العالم.
قبل الدخول في تناول جانب من المراجعة لرواية فرانزين «نقاء» تلك التي كتبها ماركوفيتس، نحتاج إلى التوقُّف عند بعض أفكاره ورؤاه بشأن عديد القضايا التي تشغل العالم اليوم. من بينها، تحذيره الجيل الحالي من إهدار الوقت في المزيد من التغريدات عبر موقع التواصل الاجتماعي (تويتر نموذجاً)، مركِّزاً على ضرورة تطوير أدواتهم في الكتابة. قال عن ذلك في أحد لقاءاته الصحافية بالنص «(تويتر) يقتل الحس العميق في الكتابة». من بين آرائه أيضاً ما يتعلق بحمَّى تجتاح منطقتنا العربية: الشرق الأوسط عموماً، والنادر في بعض مناطق العالم؛ وإن جاء رأيه هذه المرة مرتبطاً بالكتابة كأداة «الكتابة ليست مؤسسة طائفية جماعية كي تجمع حولها الآخرين، بقدر ما هي جهد خيالي شخصي».
يتطرَّق ماركوفيتس في مراجعته لرواية «نقاء» إلى جوانب فنية تتعلق بالتكنيك الذي يعتمده فرانزين، دقته في عملية السبك الدرامي، وغيرها من الجوانب.
يرى ماركوفيتس أن جوناثان فرانزين، أصبح واحداً من الكتَّاب الذين يمكن القول، إنه من الصعب الاشتغال على مراجعة إصداراتهم. بين الثناء على عمل يصدره، ورد الفعل على الثناء الشديد (شخصنة القراءة والتناول) يضعك ذلك في خانة الكذَّاب؛ إذ ستكون مُحدَّداً بين هذا وذاك. في اتجاهين مُضادَّين.
ماركوفيتس، يعتقد أن ذلك جزءاً من إنجاز فرانزين الحقيقي بتلك القدرة والطاقة التي يملكها في الجذب والاستحواذ على مثل هذه المشاعر القوية تجاه ما يصدره. ويعقد مقارنة هنا بينه وبين توم وولف، وديكنز، في ما يتعلق بهذه المسألة. لقد نجح فرانزين في القيام بما قام به قليلٌ من الأدباء والكتَّاب الذين تمكَّنوا من الوصول إلى جمهور كبير. ويرجع ذلك في جانب منه، مثل وولف وديكنز، على حد سواء، إلى أنه يتوخَّى حضور المتعة فيما يكتب، ويحرص على أن تكون كتبه جادّة، تتناول الأمور والإشكالات التي تحدث من حولنا بشكل يومي.
روايته الجديدة «نقاء» تتقصّى بشكل مباشر موضوعاتها، وليست على مبعدة من روايتيه «الحرية» و «التصحيحات»، يصفها ماركوفيتس بإنها رواية مهمة حول السياسة المهمة التي تقودها حفنة من العلاقات العاطفية على نطاق صغير. «بيب» تايلر (كان اسمها يوم ولدت هو «نقاء») تعيش في ظروف مُزْرية بعد التخرُّج في أوكلاند.
ماركوفيتس يشير إلى أن فرانزين يكتب بشكل ممتع عن هذه الشريحة من الناس، يبدو هزلياً، وعاطفياً في الوقت نفسه. بقدرته حتى على الإمساك بأصواتها (بالمناسبة يُفْرِط في استخدام تلك المفردة (حتى)».
«بيب» ليست فقط بطلة الرواية؛ ولكنها أيضاً نقطة ارتكاز لكثير من الحبكات الجانبية فيها. ترعرعت في وادي سان لورينزو، على يد أم عزباء من الهيبيز، والتي اعتمدت عليها عاطفياً بشكل كلي، ما خلا إحجامها عن إخبارها عمَّن هو والدها، إلى جانب أنها لم تساعدها على التغلُّب على ديون دراستها الجامعية. «بيب» تم التغرير بها، سياسياً على الأقل، من قبل أنابيلا، زميلتها الألمانية في السكن. تم ذلك من خلال تواصل عبْر شبكة الإنترنت. في المشهد تبرز شخصية «المُسرِّب» الشهير أندرياس وولف.
تتحوَّل الحبْكة الروائية إلى برلين الشرقية، حيث مُستقرُّ وولف، طفل الحكومة المتمرِّد والمدلل، وصولاً به إلى سن الرشْد. هنالك حيث الغابات المطيرة البوليفية، يقوم وولف بإعداد مشروع أسماه «أشعَّة الشمس»، وهو موقع على شبكة الانترنت يعمل على غرار موقع «ويكيليكس». أسانج وسنودن تتم الإشارة إليهما بوولف (هو نفسه تتم الإشارة إليه بالشخصيتين). تحوي شخصية وولف شيئاً من شخصية أسانج الجاذبة والغريبة، مع خليط من طابع ضبط النفس والغرابة في شخصية سنودن. سرعان ما تجد «بيب» نفسها متورِّطة معه، بسبب اعتقادها بأنه يمكن أن يُساعدها على معرفة: من هو والدها!
يتتبَّع ماركوفيتس، سمة الكتابة لدى فرانزين؛ إذ يحوي أسلوبه أنماطاً مما يمكن أن يُطلق عليه بالأسلوب التخاطبي، ذلك الذي يعجُّ بالحوار. هنالك النثر ذو الطابع الذكي جداً، ذلك الذي يتشح بالدقة، التي يمكن ملاحظة أن فرانزين يأخذها على محمل الجد.
ثمة وحدات صغيرة يمتلئ بها الكتاب، تظل مشحونة وممتلئة بالمراقبة والملاحظة الذكية والوصف الفكاهي.
يرى ماركوفيتس أن نطاق وتعقيد الحبكة الروائية لدى فرانزين - أحياناً - يجبرانه على فرض الحدث الروائي بالتساوق والتزامن. تتحوَّل طفولة وولف الألماني الشرقي إلى حدث درامي، ذلك الذي لا يشعر القارئ بضرورته ومركزيته في العمل، كما هو الحال بالنسبة إلى وولف نفسه. لكن بقية القصة تتوقَّف وتتمركز حول ذلك أيضاً. لشريحة كبيرة هي ضمن الشريحة المتوسطة، تبدو الرواية مُعتمدة على سلسلة من المُصادفات بعيدة الاحتمال والتحقق.
موضوع فرانزين «المهم» هنا يتقصَّى تطور سلطة الدولة وتحوُّلها إلى سلطة غير حكومية، وذلك عن طريق الإنترنت، وذلك ما يفكِّر به وولف، تمثُّلاً للنظام الجديد - خلفيته - بالفعل الدرامي - باعتباره ألمانياً شرقياً، تلك في الصميم من جَعْلِها مناسبة لمقارنة أشكال مختلفة من كُتَل القمع التي تصدر عن السوق». الأمر الذي يبدو أكثر وضوحاً من دون وضعه في خانة المفارقة، أن الناس الأذكياء - في الواقع - هم أكثر رعباً من النظام الجديد، تجاوزاً لقدرة النظام على إقناع أناس أقل ذكاء بالخشية من وكالة الأمن القومي، ووكالة المخابرات المركزية. يبدو الطرح والتناول هنا في الرواية، مباشراً بانطلاقه من قواعد اللعبة التي تمارسها الأنظمة الشمولية؛ بحسب تعبير ماركوفيتس.
فكرة الرواية يجب أن تحمل الكثير من هذا العبء، فهي بمثابة هروب من ديناميكيات السلطة، واعتبارها أداة في علاقات تلك الديناميكيات.
العدد 4732 - الجمعة 21 أغسطس 2015م الموافق 07 ذي القعدة 1436هـ