انهضْ.. الجبال لا تنتظر أحداً، علينا أن نصل إلى «الجابية الطويلة» قبل الشمس، قبل أن يجفّ ماء المطر من الجبال، وتختفي أسرار الليل.
- دقائق وأجهز، ماذا ألبس للمشي في الجبال؟
- أسرارك، وأن ليس عليك أن تحسن التصوير لكن عليك أن تحسن المشي.
- يا صديقي، الجمع بين حسن المشي وحسن النظر من المستحيلات. العين في مهابة إبصارها لا تكترث بشكل المشي ولا تهتم. بصراحة أنا غير مضمون.
- الجبال لن تأبه لسقوطك إذن. الجبال مشغولة بصمتها، بحوارات قممها، بسيرة عيون الوعول ساعة قنصها، وبأسرارها أيضاً. لم تعد الأسرار تُودع في حجر واحد في القرية، يسمونه «المندوس» ينفرد به الشخص ويفشي عنده كلّ أسراره ويرتاح، منْ ينوي السفر يزوره يقول كلّ أسراره ويغادر القرية خفيفاً، العائد من سفره الطويل المشحون بالأسرار لا يقصد أهله حتى يزور حجر «المندوس» يفشي كلّ أسراره ثمّ يزور أهله هكذا بلا أسرار. الناس ما عادت تفعل ذلك. صارت الأسرار في الجبال. صار لكلّ واحد مندوسه «كان الشعر والوعل والنساء والورع والأخلاق والأدب وأخبار القبائل والحروب والبطولات كلها حاضرة، وكنت صامتا أتلقى ما أسمعه، أفتح مندوساً صغيراً في صدري، وأخبئ كل ما أريد-القنّاص». قرية مِس محاطة بالجبال المشحونة بالأسرار. عرفت أنّه لا يجعل الجبال ثابتة إلا الأسرار.
- أعرف! منْ يسقط ينهض لوحده. هذا شرط التجوال. السرّ المخفيّ له طبيعة الحجر. لن أفهم مكانا كهذا من نظرة ومشية.
خرجنا نمشي، نسابق الشمس بين الجبال في قرية مِس بوادي الطائيين (125 كليومترا جنوب غرب مسقط). القرية صامتة والفلاحون وصلوا إلى البساتين بعد صلاة الفجر بقليل. صوت حشرة «الصرّوخ» يضجّ في أشجار العشر «الشخر». انشغلت بمشية زهران في طرق الجبال. كيف يفعل ذلك؟ كان لا ينظر إلى المواضع التي يضع قدميه فيها، لا يسوّي توازنه بيديه بلمس الجبال مثلما أفعل، لم ينشغل بالحذر مثلي، بل اكتفى بنعل خفيف ولم يتحصّن بحذاء خاص، صامت طوال المشي إلاّ من إجابات سريعة لأسئلتي. قال:
- كانوا يمشون حفاة في الجبال هنا، قاع أقدامهم لا تقلّ قسوة عن الجبال. هذا قليل ممّا أخذوه من وعل الجبل.
في أماكن النزول الصعب ينتظرني في الأسفل، ينظر ويسأل عمّا إذا كنت قادراً على هذا المشي في هذا المنحدر الرأسي دون أن أنزلق. أشير إليه: «لا عليك»، وهي جملة لا تعني أنّي متمكّن أبداً؛ إنّما تقلل من ورطتي بشكل مؤقت. توقّف عند حجارة صغيرة بيضاء مصفرة جُمعت على بعضها البعض، أعاد واحدة إليها وحقق الجمع من جديد، قال:
- هذه الحجارة علامات على الطريق إلى الجابية الطويلة، إلى الماء. انظر بعيداً هناك واحدة أيضاً. علينا اتباعها إن أردنا الوصول إلى الماء. إذا لم نفعل ذلك سنجد أنفسنا في أوّل الدرب من جديد! وربّما في متاهة الطرق ولا يكون لنا إلاّ الغياب.
- انتظر. عليّ تصويرها. قرأت ذلك في روايتك «القنّاص». قرأت «ظلّ أبي يصف لي المكان بدقة، الأشجار الصخور،العلامات الموضوعة في الطريق، الوديان، حتى وصلت». هل كنتَ القنّاص في الرواية؟!
- ههههه. لا. كان صالح بن شيحان
- صالح بن شيحان مجموعة قناصين في واحد. روح قنّاص واحد لا تكفي في الرواية. الشخص الرئيس في الرواية، الشخص المحوري، لا يكون وحده.
-ربّما.. أرواح الشخوص تتقطّر من كاتبها؟!
فلمّا توسطنا الجبال بدونا مثل كائنين ضئيلين لا حيلة لهما إلا النظر. العيون التي تسع كلّ شيء، لا تسع أمرين هنا: الجبال وسيرة الحجر فيه. كنّا نمشي في مكان الرواية. وللدقّة هي الأماكن الفيزيائية للرواية قبل أن تدخل في مختبر الكاتب، وتنفرد، وتنفصل، وتدبّ فيها حياة جديدة ويصبح مكانها لا يشبهه مكان. وربّما التبس المكانان على القارئ، تماماً مثل ما التبس الشخص المحوري في النص بكاتبه. إنّه ما يشبه تبادل الأدوار. لكن لا شيء من ذلك.
صعدنا آخر مرتفع توقّف فوقه ينتظرني. فلمّا وصلت إليه سمعت صوت جريان الماء من جهتين: يسرى كأنّه يصب في مكان عميق، ويمنى يتدفّق فوق صخور تعلو وتهبط قليلاً. هذا الماء يأتي من فوق قمم الجبال، ولفرط اندفاعه وعبر سنوات طويلة قسم صخرة نصفين، سمّيت أحدهما «الهوري» وهو القارب الصغير بعد أن صار شكلها شكله، وصار الماء يتفرع قبلهما ويلتقي بعدهما. هذه سيرة الماء في قرية مس، يتفرّع، ينقسم، يتجدول وفي النهاية يلتقي في مكان واحد بعد أنّ مرّ بسير المكان والناس.
يتفرّع الماء مرّة أخرى، يدخل فرع منهما فلجا مغطى باتجاه إلى قرية مِس، يروي أشجارأوّل بستان «الرهينة»، بعده تأخذ البساتين والناس حاجتهم منه، ثمّ يفيض للقرى التالية حتى وادٍ «ضيقة» مجمع المياه قبل أن يصبّ في البحر. والثاني إلى البساتين القريبة الأخرى حافراً موضعا بعمق متر واحد يزيد قليلاً وينقص، ومتجمعا فيه ليكون «الجابية الطويلة»، مكان حكايات ومجمع سير أهل القرية. ماء بارد تقطّر من قمم الجبال، تدفّق بين الصخور، شذّبها، نحتها، فشكرته بالنقاء.
نزلنا معا: الماء والصمت. عرفت: اليوم في الجبال قصير، وعرفت أيضاً: لا جهة فيها، لا منخفض ولا وادٍ ولا نبع ماء ولا نبتة ولا زهرة صغيرة جداً، لا حجر إلا وله اسم. يهبون الحجر أسماء ونعوتاً لا لتكون دليلا لهم، لكن لأنّهم شاهدوا الحياة فيها كشفا، ورأوها رؤي عين. صارت منهم أمينة على أسرارهم. الأشياء الحيّة لها أسماء نتصل بها عبرها. فتحت الحديث:
- زهران.. الأسماء كثيرة هنا.. كثيرة جداً؟ قمة السويح، وادي قعبت، وادي ياء، وادي خويلص، وادي خب الغافة، قرية مِس، والجابية الطويلة، الرهينة والبساتين الأخرى، القائمة طويلة والأسماء كأنّها تنبع من أصل الجبال؟!
- كان واحداً من الأسئلة التي وُجهت إليّ في روايتي «القنّاص» لماذا تعرف كلّ هذه الأسماء؟ من أين لك؟ كيف تحفظها؟ كتبت في القنّاص «لكلّ مكان في الجبال اسم، لم يترك أجدادنا الأمكنة دون تسميتها، فهذا الوادي الذي مشيته لأوّل مرة عندما كنت صغيراً، في تلك الرحلة الأولى لي وهو وادي قعبت، الوادي الرأسي الذي يخرج على أولى القرى من قرى وادي الطائيين، يخرج على قرية مس، وعلى أولى بساتين النخيل الذي يحمل الاسم ذاته». الأسماء قصص.
- لكنّ بطل روايتك لم يكتف بهذه الأسماء الكثيرة أصلاً فكان مغرماً بتسمية أشيائه أسماء قريبة إلى قلبه «فبندقيتي اسمها عز، وسكيني قطّاعة، ومحزم الرصاص شدّاد، وحقيبة الظهر بنت الريح، ومنظاري المقرب عين الصقر، وحذائي الصعب» هذه القرية مغرمة بالأسماء وهذا لا يكون إلا لوفرة الحياة فيها.
أنزلت كاميرتي إلى الماء، فهذا المشهد يستحق كثيرا من التصوير: ضفتا الجابية الطويلة وظلال الجبال فيها، سكون الماء ورقته، ونهاية الجابية جهة المصبّ نخلة تحرس الماء. أيّ مشهد هذا؟ هذا هو تاريخ التصوير منذ العام 1839م: البحث عن جماليات الأشياء من حولنا، ولم ينفك المصورون من الناس يبحثون عن الجمال لا شيئا آخر. نصور كي نستولي على المشهد، نضع أنفسنا في علاقة معه، نتسلط عليه ونبقيه معنا. هذا ما كنت أفعله. هذا المكان يستحق التسلط عليه وإبقائه جواري، وتحويله إلى معرفة عامة لكلّ من يشاهد الصور. الآن عندما أحدث أحدا عن الجابية الطويلة فلديّ ما أريه إياه: صور تختصر الكلام. ماذا لو حوّلت فصلا من رواية «القناص» إلى صور؟ فصل مصوّر لا كلام فيه؟ سيحضر المكان فيه بقوة، وربّما يصبح مكاناً واحداً هكذا بلا أسماء. ماذا سيفعل القارئ في نصّ مصوّر بلا أسماء؟! ماذا يحدث لو جعلنا الأماكن في النص بلا أسماء؟ وخصوصا أن واديا واحدا مثل وادي قعبت فيه من الأسماء الكثير؟!
كنتُ أتراوح بين مكانين: المكان في رواية «القنّاص»، وهذا المكان. ومثل أي قارئ ظننت أنّ هذا المكان هو الذي في النصّ فرحت أسأل وأبحث وأنظر في مواضع مسرح حركة صالح بن شيحان وهو يطارد تيس الوعل ليتمكّن منه ويتمكّن من حلمه ووهمه. أن تجد نفسك في المكان الفيزيائي لنص قرأته، وتظنّ أنّه هو ذاته!! وتظن أنّك فهمته! أو ربّما ستفهم النص بشكل مغاير الآن لأنّك في سيرته؟! أزعم أنّه لا شيء من ذلك سيحدث فالمكان في الرواية بشبكة العلاقات فيه بين الشخوص أنفسهم وبين الشخوص وما حولهم، وما فيهم من تناقضات وتوافقات وحورات خفيّة لا يشبه هذا المكان. ومَنْ ذا يفهم المكان من النظر فيه أو المشي لحظات في ممراته؟!
غادرنا الجابية الطويلة وماءها البارد النقي نحو القرية عبر البساتين التي تأخذ شكلا طوليا منحياَ مع قواعد الجبال. وكلّما مشينا توقف زهران عند نبتة برية يحدثني عن طبيعتها النباتية وفيم تستخدم، وعن قصص حولها. هذه الجعدة العطرية، خرمان «رائحته سيئة جدا»، القفص يستخرج من بذوره زيت القفص، العسبق، عيطمان مخدرة السمك ومطهرة الماء، الشوع، الحرمل، ونباتات وأعشاب كثيرة. غداً نبدأ رحلة مشي جديدة صديقان: زهران يحسن المشي، له قدم ثابتة في الجبال وقلب في أسرار الحجر، وأنا أحسن التصوير فقط، وأحوّل التجربة إلى صور سوف تعيش بعدنا طويلا. ومَنْ يسقط ينهض لوحده.
العدد 4732 - الجمعة 21 أغسطس 2015م الموافق 07 ذي القعدة 1436هـ