أضحى الفساد المستشري وخصوصاً في الدول النامية، معضلة حقيقية ومرضاً متأصلاً ومعدياً أيضاً. وحسب تقارير «منظمة الشفافية الدولية» المتواترة، فإن الخسائر المباشرة المترتبة على الفساد تتجاوز تريليون دولار، عدا عن الخسائر غير المباشرة، ومنها إعاقة التنمية وحرمان القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والمواصلات والإسكان وغيرها من الموارد المطلوبة، أو إساءة استخدام الموارد وسوء تنفيذ المشاريع الحيوية، وتدني مستوى الخدمات الأساسية المهمة للمواطنين.
وقد قامت «منظمة الشفافية الدولية» وعلى امتداد السنوات الأربع الماضية، بحملة لتبيان التأثيرات السلبية للفساد على كل تلك المجالات والميادين وغيرها، من خلال أفلام الفيديو والملصقات والندوات، وعبر وسائط الإعلام التقليدية والإلكترونية، وتوصلت إلى حقيقة مهمة، وهي أن الفساد يحرم الإنسان من حقوقه الأساسية.
لكن الظاهرة التي اجتاحت العديد من دول العالم، وآخرها العراق وقبلها جواتيمالا والبرازيل وأوكرانيا واليونان وغيرها، هو خروج المواطنين العاديين إلى الشارع من ذاتهم، وفي معظم الأحيان دون تنظيم من أحزاب أو غيرها، احتجاجاً على الفساد المستشري الذي تسبّب في حرمانهم من حقوقهم من خدمات الدولة، وأدّى بهم إلى الفقر والعوز.
العراق الذي اعتقد كثير من المحللين أنه لا أمل في تعافيه، بسبب تمكن نظام المحاصصة الطائفية والمصحوب بالفساد والمحسوبية والغنائمية والاستقطاب الطائفي والقومي والديني، وحالة الحرب المخيّمة على البلاد، وخطر «داعش» الماحق الذي لا يترك فرصةً للتفكير أو حتى نقد النظام السياسي تطبيقاً لشعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، فإذا بالجماهير العراقية وبعضهم يلتقون بعضهم البعض لأول مرة، تخرج إلى الشارع تطالب بوضع حدٍّ للفساد والمفسدين والفاسدين من كبار المسئولين المدنيين والعسكريين، بمن فيهم قادة الأحزاب والوزراء والقادة العسكريون الذين تسببوا في إفقار المواطن العراقي وافتقاده لأبسط الخدمات من كهرباء وماء وتطبيب وتعليم معقول في بلد يطفو على بحيرة من النفط وثاني بلد مصدر للنفط (4.5 مليون برميل يومياً).
وما فاقم الأمر الهزائم المنكرة للجيش وقوات الأمن، أمام عصابة «داعش»، وتسليم ثاني أكبر مدينة (الموصل)، والرمادي وتكريت وسنجار وهروب القادة العسكريين والأمنيين، على رغم المليارات التي أنفقت على بناء الجيش والأمن.
وقد أيدت المرجعية الدينية للسيد علي السيستاني انتفاضة الشعب عن حق، ودعت القيادة السياسية إلى المبادرة بإصلاحات شاملة وعميقة ومحاكمة المسئولين الفاسدين، ما أسهم في لجم القيادات الشيعية التي تريد الاستمرار في امتيازاتها والإفلات من المحاسبة، بشعارات مضللة، وهو شيء تشكر عليه المرجعية وليس لومها.
في البرازيل حيث تتسيد على الحكم ولدورة ثانية، السيدة ديلما ريسيف، زعيمة «حزب العمال الشعبي»، والذي أحدث بقيادة الرئيس السابق لولا دا سيلفا، انعطافة مهمة في مسيرة البرازيل، وانتشلها من وضع متخلف وفاسد، إلى رحاب النجاح في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ووضع البرازيل على خريطة النمور الاقتصادية الصاعدة.
ولكن، وكما يحدث دائماً، فقد أفسدت السلطة العديدين، بمن فيهم مناضلون في «حزب العمال الشعبي» من رفقاء لولا دا سيلفا، حيث تسربت معلومات عن فساد هائل صاحب إقامة التجهيزات من ملاعب وطرق وبنية تحتية لاستضافة البرازيل للفيفا في 2014، واستضافتها المرتقبة للألعاب الأولمبية في 2016، في حين فرضت على الشعب البرازيلي ضرائب وحرمت قطاعات حيوية مثل الإسكان، حيث تعاني البلاد من أزمة حقيقية في الموارد.
لقد سبق أن خرجت مظاهرات احتجاجية في العديد من المدن البرازيلية قبيل ألعاب الفيفا، لكن السلطة استطاعت أن تعزلها وتقمعها تحت شعارات وطنية لإنجاح الفيفا، لكن المظاهرات الاجتماعية عادت مرةً أخرى مع كشف الوقائع عن الفساد المصاحب للفيفا، واضطرار الحكومة تحت ضغط البرلمان إلى تكليف النائب العام بالتحقيق في الموضوع بصلاحيات كاملة لا تستثني أحداً.
وهكذا تثبت الجماهير دورها عندما تتخلّى النخب والأحزاب والنقابات والمنظمات المجتمعية عن مسئوليتها أو تقصر فيها.
أما في اليونان، فإن حزب «سيريزا» اليساري بزعامة أليكس تسيبراس، والذي صعد بشكل مفاجئ إلى السلطة بعد فوزه الكاسح في الانتخابات النيابية في ظل أزمة اقتصادية عميقة، فقد اضطر رئيس الحكومة وزعيم الحزب تسيبراس إلى أن يوقّع على اتفاق مع دول اليورو، لإنقاذ الاقتصاد اليوناني من الانهيار، ولكن بالشروط ذاتها، بل أقسى، والتي رفضها قبل الانتخابات، لكنه استفتى الشعب اليوناني على الاتفاق القاسي والمذل كما وصفه، وأيد الشعب اليوناني الاتفاق المر لأن البديل هو أمر. لكن الجانب الإيجابي، هو تحرّك الجماهير اليونانية المطالبة بوضع حدٍّ للفساد المتأصل في مؤسسات الدولة وإداراتها، والهدر الكبير للموارد المالية، وتهرّب كبار المسئولين والشركات من الضرائب. وهكذا... فإنه لا يمكن للاقتصاد اليوناني أن يتعافى حتى ولو ضخّ فيه تريليون يورو، من دون استئصال الفساد وإيقاف الفاسدين.
أما في جواتيمالا، البلد الأفقر في أميركا اللاتينية، فقد خرجت الجماهير مطالبةً باستقالة الرئيس والحكومة بعد الكشف عن فضائح فساد مدوية للمتربعين على الحكم في بلدٍ يعاني الكثير من سكانه من الجوع والفقر والبطالة، وعدم توافر السكن والتعليم والخدمات الصحية اللائقة.
إنها موجة حراك جماهيري يجتاح العالم، ومنها بلد عربي وهو العراق، للتصدّي للفساد، فمتى تجتاح الموجة عالمنا العربي، وهو من أكثر مناطق العالم فساداً؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4732 - الجمعة 21 أغسطس 2015م الموافق 07 ذي القعدة 1436هـ
السلام
بلا فساد في الدنيا في