أورد موقع مركز كارنيغي للشرق الأوسط دراسةً للباحث كاوه حسن عن إقليم كردستان العراق، جاء فيه:
يتمتع إقليم كردستان العراق بقدرٍ أكبر من الاستقرار والتنمية الاقتصادية والتعدّدية السياسية من بقية البلاد. ويطالب الرأي العام في ظل حكومة إقليم كردستان بحوكمة قائمة على سيادة القانون. غير أن السلطة تتركّز في أيدي الأحزاب والأسر الحاكمة، التي تعمل على إدامة نظام سلطاني غير ديمقراطي. في حين قد تُفاقم هذه الديناميكيات حالة عدم الاستقرار في إقليم كردستان والمناطق المجاورة له، يمكنها أيضاً أن توفّر فرصة نادرة للدمقرطة.
الديناميكيات في حكومة إقليم كردستان
يهيمن الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة رئيس إقليم كردستان الحالي مسعود البرزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة رئيس العراق السابق جلال الطالباني، على النظام جنباً إلى جنب مع اثنتين من الأسر الحاكمة هما البارزاني والطالباني.
يتقاسم قطاعَ الأمن وأجهزةَ الاستخبارات وقيادةَ الوحدات العسكرية في حكومة إقليم كردستان الحزبُ الديمقراطي الكردستاني والاتحادُ الوطني الكردستاني.
شهد إقليم كردستان طفرة اقتصادية بين عامَي 2003 و2013 كانت قائمة على عائدات النفط والاستثمار الأجنبي. غذّى الانتعاش الاقتصادي المفاجئ التنمية في الإقليم، غير أنه أدّى أيضاً إلى إثراء المستثمرين والنخبة الحاكمة وتمكينهما.
اعتباراً من مطلع العام 2014، بدأت حكومة إقليم كردستان تواجه أزمة اقتصادية حادّة بسبب الفساد، وسوء الإدارة، والخلافات مع بغداد، ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
يعبّر المجتمع الكردي بصورة متزايدة عن معارضته لتوجّهات النظام السلطاني. وقد أدّت الحركات الاجتماعية إلى إحداث تغييرات تدريجية وجزئية لكن مهمّة.
الأحزاب التي كانت في صفوف المعارضة في السابق، بما فيها حركة التغيير (گۆڕان) القوية، هي الآن جزء من الحكومة.
اغتنام الفرصة
تواجه حركة التغيير (گۆڕان) وأحزاب المعارضة السابقة الأخرى تحدّياً يتمثّل في تقديم نموذج بديل من السياسة والسياسيين، يكون غير فاسد أوغير مستلحَق من قبل النظام السلطاني. ويتعيّن على زعماء المعارضة السابقة والقواعد الشعبية مساءلة مسؤوليها، وإذا لزم الأمر، استبدال الفاسدين منهم بمسؤولين جديرين بالثقة ويتمتّعون بالمصداقيّة.
وعد الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني بإصلاح النظام. وإذا لم يتمّ ذلك، ينبغي على حركة التغيير (گۆڕان) وغيرها من أحزاب المعارضة السابقة أن تكون واقعيّة بشأن فرص إصلاح النظام من الداخل، وأن تبحث في استراتيجيات سلميّة ومدنية بديلة للضغط على الحزبين للوفاء بوعودهما.
يمكن للحكومات الغربية أن تساعد في التحفيز على إجراء التغيير في إقليم كردستان، من خلال الإصرار على إنشاء جيش وشرطة وأجهزة أمنية وطنية وغير حزبية. كما ينبغي عليها أن تضغط على الحكومة الاتحادية في بغداد للتوصّل إلى اتفاق نهائي مع حكومة إقليم كردستان حول وضع الإقليم، وترسيم الحدود بشكل واضح، وإيجاد حلّ للقضايا السياسية والاقتصادية العالقة بين أربيل وبغداد.
مقدّمة
تصف حكومة إقليم كردستان والمراقبون الخارجيون إقليم كردستان، في بعض الأحيان، بأنه "العراق الآخر"، أي المكان الذي يتمتّع بالاستقرار النسبي والأمن والتنمية الاقتصادية والتعدّدية السياسية، وبهامش من الحرية للمجتمع المدني. ربما يكون هذا صحيحاً، غير أن هذا التقييم يغفل عن توضيح الأجزاء الرئيسة للقصة. إذ يهيمن على الإقليم حزبان رئيسان هما الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة الرئيس الحالي للإقليم مسعود البارزاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة رئيس العراق السابق جلال الطالباني. كما تُهيمن عليه أسرتان حاكمتان هما البارزاني والطالباني، اللتان أنشأتا ما يُعرف "بالنظام السلطاني" وحاولتا على مدى عقود عدّة توطيد حكمهما.
حسن هو باحث زائر في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تتركز أبحاثه على السياسات الكردية والعراقية، والمجتمع المدني والدمقرطة، والمساعدات التي تقدّمها الجهات المانحة، وعمليات الانتقال، ولاسيما في الشرق الأوسط.
بين عامَي 2003 و2013، شهد إقليم كردستان طفرة اقتصادية ملحوظة، استندت إلى عائدات النفط وتدفّق الاستثمارات الدولية. ربما تكون الطفرة عادت عموماً بالنفع على الإقليم، إلا أنها أثْرت ومكّنت النُّخَب الحاكمة والمستثمرين الأجانب، خاصة في تركيا، وأدّت إلى توفير مكاسب سريعة للزعماء المؤثّرين وأصدقائهم المقرّبين في إقليم كردستان. وعلى الصعيدَين السياسي والاقتصادي، عزّزت الطفرة قبضة الحزب الديمقراطي الكردستاني على السلطة، وإلى حدّ أقلّ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، خاصة في قطاع النفط الاستراتيجي.
تعزّزت هذه العملية عبر إقرار ما يُسمّى بالاتفاق الاستراتيجي في العام 2007 بين الحزبين. من خلال هذا الاتفاق، الذي كان صفقة بين الزعماء أكثر منه بين الحزبين، اتّفق الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على تقاسم السلطة والثروة. وبموجب شروط الاتفاق، دعم مسعود البارزاني جلال الطالباني في مسعاه إلى أن يصبح رئيساً للعراق. بدوره، قدّم الطالباني للبارزاني وللحزب الديمقراطي الكردستاني تفويضاً مطلقاً للهيمنة على الحكومة والسياسة والأمن والاقتصاد (قطاع النفط الحيوي على وجه الخصوص)، والعلاقات الخارجية لحكومة إقليم كردستان. أصبح الحزب الديمقراطي الكردستاني الشريك الرئيس، فيما أصبح الاتحاد الوطني الكردستاني الشريك الأصغر في السياسة الكردية.
ثمّة مفارقة من نوع ما تتكشّف رويداً رويداً في إقليم كردستان، وتتمثّل في التناقض بين هذا النظام وبين تطوّر المجتمع. فقد أصبح المجتمع في حكومة إقليم كردستان مسيّساً أكثر فأكثر، فيما أصبح الناس واعين لحقوقهم أكثر من أي وقت مضى، ويسعون جاهدين إلى الحصول عليها. مع ذلك، وفي الوقت نفسه، أصبح الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني أكثر "سلطانية". السلطانية، تعريفاً، هي شكل من أشكال الحكم يقوم على المحسوبية، والزبائنية، ومحاباة الأقارب، والشخصانية، والسلالية (الحاكمة). وبينما يحاول الحزبان والعائلتان الحاكمتان تعزيز نظام سلطاني غير ديمقراطي، يسعى أفراد المجتمع إلى مزيد من الديمقراطية وبالتالي إلى نظام غير سلطاني بطبيعته يقوم على سيادة القانون والجدارة والشفافية والمساءلة. ويتجلّى هذا السعي في احتجاجات منتظمة ضد انعدام سيادة القانون وظاهرة الإفلات من العقاب والفساد المستشري على أعلى المستويات.
من غير الواضح كيف سيتطور التوازن بين هاتين القوتين، بيد أنه يبدو مهمّاً، وستترتّب عليه آثار لاتقتصر على كردستان وحسب، بل أيضاً على العراق وحلفائه. إذ تلعب حكومة إقليم كردستان دوراً حاسماً في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية الجهادي. وكما تتوفّر في الإقليم موارد هائلة من النفط والغاز، حيث استثمرت بعض شركات النفط الغربية الكبرى والقوى الإقليمية مثل تركيا بكثافة في قطاع الطاقة في إقليم كردستان. علاوةً على ذلك، يُعتبر المجتمع الكردي العلماني والإسلامي المعتدل بصورة عامة حليفاً اجتماعياً أساسياً على المدى الطويل في المعركة ضد التطرّف الديني.
لكل هذه الأسباب، فإن تطوّر الدينامكيات بين النظام السلطاني وبين المجتمع المسيّس سيكون له تأثير خارج كردستان.
إقليم كردستان المتطوّر
ناضل الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على مدى عقود من أجل حقوق الأكراد في العراق. وقادت أسرة البارزاني الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو حزب كان محافظاً، منذ تأسيسه العام 1946. ونظراً إلى الصراعات الإيديولوجية والشخصية، تخلّى الطالباني وأعضاء كبار آخرون عن الحزب الديمقراطي الكردستاني في ستينيات القرن الماضي، وشكّلوا الاتحاد الوطني الكردستاني الأكثر يسارية وتقدّمية في العام 1976. وشنّ الحزبان صراعاً ثورياً مسلحاً ضد الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين.
في آذار/مارس 1991، بدأ الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني هجمات مسلحة ضد الجيش وأجهزة الأمن العراقية، وامتدّت الانتفاضات الشعبية ضد صدام حسين إلى كل أنحاء كردستان. وفي أواخر العام 1991، وقّع الجيش العراقي والقوات الكردية اتفاقاً لوقف إطلاق النار، وبعد ذلك سحبت الحكومة المركزية العراقية إدارتها وجيشها وأجهزتها الأمنية من الإقليم. ثم أنشأ الأكراد حكومة إقليم كردستان المستقل بحكم الأمر الواقع تحت حماية الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا.
عقدت السلطات الكردية انتخابات في العام 1992. اختلف الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على نتائج الانتخابات، لكنهما اتّفقا على صيغة مناصفة (50-50) لحكم الإقليم. وبموجب هذا الاتفاق، أصبح لكل مؤسّسة وزير من أحد الحزبين ونائب له من الحزب الآخر. تم تطبيق هذه الصيغة على مختلف مستويات الهيئات الرسمية، كالحكومات المحلية وأجهزة الأمن وقوات الشرطة. وفي العام 1994، اندلعت حرب أهلية بين الحزبين بسبب النزاعات المحلية حول حقوق حيازة الأراضي والتنافس على عائدات الجمارك. ووفقاً للمجلة الدولية للصليب الأحمر، قُتل في هذه الحرب 3 آلاف مقاتل ومدني، وشُرّد عشرات الآلاف.1 وفي العام 1998، توسّطت الولايات المتحدة وساعدت في التوصّل إلى اتفاق لإنهاء الأعمال العدائية، فشكّل الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني حكومتين متنافستين.
شكّل سقوط نظام صدام حسين في العام 2003 علامة فارقة في تاريخ الإقليم. فقد بشّر بنهاية نظامين للعقوبات، أحدهما فرضته الأمم المتحدة على العراق والآخر فرضه العراق على حكومة إقليم كردستان، فضلاً عن النهاية التدريجية للإدارتين المنفصلتين للإقليم وتشكيل حكومة موحّدة.
في السنوات العشر التي تلت ذلك، شهد إقليم كردستان طفرة اقتصادية. كان النمو السريع قائماً على عائدات النفط والاستثمارات الأجنبية، وخاصة من تركيا، ومهّدت له القوانين الملائمة لممارسة الأعمال التجارية والبيئة الآمنة. واعتباراً من آب/أغسطس 2006 وحتى آذار/مارس 2014، تم استثمار أكثر من 38 مليار دولار أميركي في إقليم كردستان.2 وجرى استثمار أكثر من ثلثَي هذا المبلغ في قطاع البناء والتشييد، مايعكس رغبةً في تحقيق أرباح سريعة وكبيرة، في حين أُهملت قطاعات الزراعة والصناعة التحويلية في الإقليم.
في آب/أغسطس 2007، أقرّ البرلمان الإقليمي قانون النفط والغاز في كردستان، وذلك بهدف المساعدة في تطوير موارد النفط والغاز في الإقليم، والذي يموّل مايقرب من 94 في المئة من ميزانيته.3 وتعمل الآن في الإقليم تسع وثلاثون شركة نفط من تسع عشرة دولة، حيث وقّعت حكومة إقليم كردستان 60 عقداً معها. وتبلغ احتياطيات النفط المؤكّدة في الإقليم 45 مليار برميل، فيما تتراوح احتياطيات الغاز الطبيعي بين 100 و200 تريليون قدم مكعب.4 وفي العام 2014، بلغت الطاقة الإنتاجية للنفط 400 ألف برميل يومياً.5 ولدى وزارة الموارد الطبيعية خطّة طموحة لرفع الطاقة الإنتاجية إلى مليون برميل يومياً بحلول نهاية العام 2015، وإلى مليونَي برميل يومياً بحلول نهاية العام 2019. وبدأت حكومة إقليم كردستان بتجاوز بغداد وتصدير النفط بصورة مستقلّة عبر تركيا.6
ثمّة مؤشّرات أخرى على أن الإقليم خرج من عزلته التاريخية. فبحلول منتصف العام 2015، تم إنشاء 31 بعثة دبلوماسية في كردستان، بما فيها القنصلية العامة الصينية، التي افتُتحت في أربيل في 31 كانون الأول/ديسمبر 2014. 7 وفي أنحاء العالم، توجد لحكومة إقليم كردستان مكاتب تمثيلية في أربعة عشر بلداً.8 ويجري حالياً إنشاء سوق أربيل للأوراق المالية، وهي أول سوق للأوراق المالية في الإقليم.9
أدّت هذه الطفرة إلى تغيّر العلاقات بين الدولة والمجتمع. فقد وفّرت للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني السيولة اللازمة لتعزيز سياسة المحسوبية وشبكات المحاباة، ما أفضى إلى توطيد دعائم النظام السلطاني. وأسفرت التحوّلات السياسية والاجتماعية الكبرى في الإقليم إلى تحوّل الثوار السابقين إلى رجال أعمال، ما أدّى إلى إزالة الحدود الفاصلة بين الطبقتين السياسية والاقتصادية. وتَشغل عائلتا البارزاني والطالباني أقوى المناصب في الحكومة، وفي كلٍّ من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. ويحتكر هذان الحزبان الرئيسان وقادتهما الاقتصاد والأجهزة الأمنية والشرطة والبشمركة (الجيش)، ويسيطران على أجزاء كبيرة من وسائل الإعلام، ويستميلانها.
في حين ساعدت هذه التحوّلات على تطوير الإقليم، لم تترجَم الطفرة الاقتصادية والتطورات الدبلوماسية إلى إعادة توزيع السلطة الاقتصادية والسياسية. بدلاً من ذلك، أدّت الطفرة العمرانية إلى تفاوت اجتماعي شديد، وانتشار الفساد في أعلى المستويات، وزيادة الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، وتشوّه السوق وتضخّم الأسعار، من بين آثار أخرى. واضطرّ معضم الناس، من أجل تغطية نفقاتهم، إلى العمل في أكثر من وظيفة.10
في المقلب الآخر، انتشرت الأبراج السكنية والمناطق السكنية المتكاملة الفاخرة والمغلقة التي كلّفت مليارات الدولارات. وتبدو أسماء هذه الأبراج والمجمعات غريبة تماماً عن الثقافة المحلية، فثمة، على سبيل المثال، القرية الألمانية والقرية الإيطالية والقرية الأميركية ورويال سيتي ودريم سيتي. وتبلغ تكلفة الشقة في إحدى هذه "القرى" مابين 300 ألف ومليون دولار أميركي.11 الغالبية العظمى ممّن يعيشون في هذه المناطق السكنية هم من الشخصيات الحزبية المؤثّرة وأصدقائهم المقرّبين، وكذلك من الفئات الاجتماعية التي استفادت من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وترتبط بهما.
لعبت تركيا أيضاً دوراً حاسماً في الازدهار الاقتصادي في إقليم كردستان، باعتبارها أكبر المستثمرين في الإقليم. وفي العام 2012، بلغت صادرات تركيا إلى العراق 11 مليار دولار أميركي، ذهب 70 في المئة منها إلى إقليم كردستان. وفي منتصف العام 2013، كان هناك 2656 شركة أجنبية مسجّلة من 80 بلداً في الإقليم؛ وكان نصيب تركيا منها 1226 شركة.12 وفي حين أدّت هذه العلاقة إلى تحقيق النمو الاقتصادي، فقد ارتفع أيضاً اعتماد الإقليم على تركيا. إذ أن نحو 85 في المئة من التجارة الكردية-التركية، والتي يُعتقد أنها بلغت 7 مليارات دولار في العام 2013، كانت تتألف من المواد الغذائية والكماليات التي يتم استهلاكها في إقليم كردستان، بدلاً من إعادة تصديرها كمنتجات ذات قيمة مضافة.13 ربما ساعدت هذه الاستثمارات والواردات في تطوير الإقليم، غير أنها عادت بالنفع بصورة رئيسة على تركيا والحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.
سياسياً، عزّزت العلاقة قبضة الحزب الديمقراطي الكردستاني على السلطة، وإلى حدّ أقل، الاتحاد الوطني الكردستاني. بالنسبة إلى تركيا، لم يكن الهدف تحقيق منافع اقتصادية وحسب، بل أيضاً تحقيق مكاسب سياسية من خلال تقديم وتسويق الحزب الديمقراطي الكردستاني والبارزاني كنموذج سياسي بديل لحزب العمال الكردستاني في تركيا، ولزعيمه عبدالله أوجلان.
الاقتصاد السياسي للنظام السلطاني
يُعدّ النظام السلطاني الذي يهيمن على كردستان اليوم شكلاً من أشكال الاستبداد. يقوم النظام على أربعة أركان: رأسمالية المحسوبية التي هي نتاج عدم إزالة الحدود الفاصلة بين الحزب الحاكم والدولة، وبين الخزانة العامة والثروات الخاصة، والشخصانية والسلالية، على الرغم من أن النظام ليس مَلَكياً بالضرورة، إلّا أنه نوع من النفاق يتم فيه التلاعب بالدستور والقوانين لمصلحة الأحزاب الحاكمة، ويستند إلى قاعدة اجتماعية ضيّقة تُمكنّ النخبة الحاكمة من ممارسة إرادتها بصورة مستقلة عن المجتمع.14
ساعدت عائدات النفط والاستثمارات التي تدفقت على الإقليم بعد العام 2003 على إثراء العائلات الحاكمة. وهناك عوامل أخرى مؤثّرة، حيث وفّرت ثلاثة عشر عاماً من العقوبات وعمليات تهريب الوقود، التي ازدهرت بين عامي 1991 و2003، للأحزاب الحاكمة ورجال الأعمال المرتبطين بها الإيرادات اللازمة للاستثمار. ومع ذلك، فإن لممارسات الفساد والمحسوبية جذوراً أعمق في العراق، وهي تعود إلى عهد إنشاء الدولة العراقية الحديثة، والتي تميّزت بغياب كلٍّ من المؤسّسات وسيادة القانون وقدسية العقد.15
يعتمد الاقتصاد السياسي للنظام السلطاني الكردي على الاحتكارات الاقتصادية وشبكات المحسوبية، والتي يتم استغلالها لإثراء النخب الحاكمة في الإقليم واستمالة بعض قطاعات المجتمع واحتواء المعارضة. وبينما ينطوي انعدام الشفافية والمساءلة على صعوبة في الحصول على بيانات دقيقة وذات صدقيّة، تمكّنت بعض المجموعات المعارضة السابقة، التي هي الآن جزء من الحكومة، ووسائل الإعلام المحلية والعالمية وموقع "ويكيليكس"، من تسليط الضوء على هذه الممارسات.
اعتبرت برقية صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية في العام 2006 ونشرها موقع "ويكيليكس"، على سبيل المثال، أن الفساد يمثّل "أكبر مشكلة اقتصادية في كردستان"، وقدّمت تفاصيل مثيرة للاهتمام حول المحسوبية في الإقليم. ووفقاً للوثيقة، التي حملت عنوان "الفساد في الشمال الكردي"، يدفع رجال الأعمال الذين يسعون إلى الحصول على عقود حكومية مانسبته 10-30 في المئة من قيمة العقد ليصبحوا "شركاء" للشركة التي يملكها أحد الرعاة الحزبيين، ونسبة 10 في المئة أخرى إلى مدير الدائرة الحكومية التي تصدر العقد.16 وتذكر البرقية تكتّلات عدّة بالاسم، بما في ذلك مجموعة ديار ومجموعة فالكون ومجموعة KARومجموعة نصري ومجموعة ساندي ومجموعة النجمة الفضية، والتي تغطي العديد من القطاعات، وبالتالي تحتكر السوق بطريقة متكاملة وترتبط بالأحزاب والعائلات المحلية الحاكمة.17
اتّضح التأثير المدمّر للفساد على الاقتصاد والمجتمع الكردي على المدى الطويل من خلال تقرير لمحطة بي بي سي في العام 2008، والذي يقول فيه أحد رجال الأعمال للمراسل علناً إن أقارب الزعماء السياسيين "قد يحصلون على وظيفة حكومية بميزانية أو عقد، على سبيل المثال، بقيمة مليون أو مليوني دولار أميركي لإعادة بناء طريق. ووفقاً للمراسل "لم يكن مهماً ما إذا كان هذا الشخص قادراً على أن يبني طريقاً بالفعل". ويُباع العقد مراراً وتكراراً إلى أن يصل إلى شركة بناء حقيقية. حينذاك ربما لايتبقّى سوى نصف الأموال". وشبّه رجل الأعمال الفسادَ بالفيروس قائلاً: "إنه يقتل كردستان".18
كما استغلّ الزعماء الأكراد سلطتهم كي يحصلوا على رواتب كبيرة، وأشرفوا على نظام تتم فيه مكافأة العديد من الأشخاص الآخرين بسخاء، للمساعدة في إنشاء شبكات المحاباة الخاصة بهم وضمان ولاء أصدقائهم المقرّبين.
ووفقاً لمصادر غير رسمية، تدفع حكومة إقليم كردستان رواتب عالية للغاية إلى مسؤولي الفئة الخاصة، كالرئيس ورئيس الوزراء والوزراء الآخرين وأعضاء البرلمان والمدراء العامين والمستشارين. ويقال إن راتب الرئيس مسعود البارزاني يبلغ 18.979 دولاراً أميركياً شهرياً، فيما يحصل نائبه، كوسرت رسول علي، من الاتحاد الوطني الكردستاني، على 16.448 دولاراً شهرياً.19 ويُعتقد أن راتب ومخصصات الرئيس العراقي السابق وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني، تصل إلى مليون دولار في السنة، وربما أكثر من ذلك بكثير. وتدفع الحكومة الاتحادية رواتب ومخصّصات المسؤولين الأكراد في بغداد، إلا أنه يتم خصمها من حصة الإقليم البالغة 17 في المئة سنوياً، وبالتالي فهي تشكّل عبئاً كبيراً على الموازنة العامة.
إضافةً إلى الرواتب والبدلات العالية لموظفي الفئة الخاصة، تنفق حكومة إقليم كردستان مايقرب من 717 مليون دولار شهرياً، أو ما بين 70 و80 في المئة من الميزانية العامة، على الرواتب ومخصّصات التقاعد لنحو 1.4 مليون شخص يوصفون بأنهم موظفو الخدمة المدنية.20 ومن خلال توفير الوظائف والمزايا العامة للسكان، يهدف الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني إلى مراقبة المعارضة العامة وقمعها. وبينما لاتتوفّر بيانات دقيقة، ربما هناك 100 ألف موظف يتقاضون راتبَين، ويحصل البعض الآخر على رواتب لكنهم لايعملون، ويتقاضى آخرون معاشات تقاعدية غير قانونية.21
إضافةً إلى ذلك، توفّر حكومة الإقليم الرواتب العالية والمعاشات التقاعدية والأراضي والوظائف والقبول في الجامعات لمسؤولي الفئة الخاصة وأبنائهم وأقاربهم، وآخرين ممن لهم علاقات مع الحزبين. ووفقاً لدراسةٍ أجرتها حركة التغيير (گۆڕان) في العام 2014، وهو ثاني أكبر حزب وكان سابقاً في صفوف المعارضة، تم من العام 2000 إلى العام 2010، تعيين وتقاعد المئات من الأشخاص بصورة قانونية وغير قانونية، على أساس أنهم مسؤولون من الفئة الخاصة. والبعض منهم لم يسبق له العمل في هذه الوظائف. ووفقاً لحركة التغيير (گۆڕان)، تم دفع مليارات الدولارات إلى هؤلاء المسؤولين.22
في محافظة السليمانية، معقل الاتحاد الوطني الكردستاني، أفاد المدعي العام في آذار/مارس 2014 بأن تحقيقاً خلص إلى أن رئيس الإقليم أو رئيس الوزراء أحال إلى التقاعد 158 شخصاً على أنهم مسؤولون من الفئة الخاصة بمعاشات شهرية تبلغ 258 ألف دولار، على الرغم من أن هؤلاء الأشخاص لم يتسلّموا بالفعل تلك الوظائف. ويوجد في برلمان الإقليم، الذي يتكوّن من 111 عضواً، 55 "مستشاراً"، يحصل كل منهم على مايقرب من 4700 دولار شهرياً. وقد أُفيد أن رئاسة البرلمان ترغب في إصلاح قائمة المستشارين.23
ثمة أمثلة أخرى لاتعدّ ولاتحصى. ووفقاً لرئيس اللجنة البرلمانية لحقوق الإنسان في حكومة إقليم كردستان، عمد الحزب الديمقراطي الكردستاني، عبر المديرية العامة للمعاشات التقاعدية، إلى إحالة 27 ألف شخص إلى التقاعد باعتبارهم من المحاربين القدامى، وذلك قبل الانتخابات التي جرت في العام 2013، في محاولة منه للحصول على الأصوات. وأوضح تقرير صدر في العام 2014 أن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني عيّنا 1437 شخصاً كمعلمين وموظفين في مدينة خانقين منذ العام 2003، منهم 200 عملوا بدوام جزئي، في حين لم يحضر الآخرون إلى العمل أبداً. ويُقال إن وزارة التربية والتعليم دفعت لهم "رواتب" شهرية إجمالية بلغت 860 ألف دولار.24
كما يحصل المسؤولون الأكراد على رواتب مجزية مقابل عملهم في بغداد. إذ يُعتقَد أن المبلغ الإجمالي للرواتب والبدلات التي حصل عليها المسؤولون الأكراد في الحكومة الاتحادية والبرلمان الوطني من العام 2003 حتى العام 2013 بلغ رقماً فلكياً هو مليار دولار.25 وتسحب الحكومة الاتحادية هذا المبلغ من نسبة 17 في المئة من الميزانية السنوية الوطنية التي تُصرَف لحكومة إقليم كردستان.
في غياب قانون تمويل الأحزاب، استغلّ الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني أيضاً الموازنة العامة لتمويل النشاطات الحزبية، وكذلك وسائل الإعلام الموازية والمدعومة حزبياً. وبعد ضغوط مارستها المعارضة السابقة، التي هي الآن جزء من الحكومة، والتي تتألف من حركة التغيير (گۆڕان) والاتحاد الإسلامي الكردستاني والجماعة الإسلامية في كردستان (كومالي إسلامي)، ومن المجتمع المدني، اعترف المسؤولون أنه بين عامَي 2004 و2010، حصل كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على 35 مليون دولار شهرياً من الأموال العامة لتمويل حزبيهما. ووصل إجمالي تلك المبالغ إلى حوالى 5 مليارات دولار على مدى ست سنوات، مايمثّل تقريباً 20 في المئة من الموازنة العامة سنوياً.26 إضافةً إلى ذلك، استخدم الحزبان الأموال العامة لتمويل أكثر من 400 من وسائل الإعلام الموازية والمدعومة حزبياً، في حين لم يحصل العدد القليل من وسائل الإعلام المستقلة، وتلك المرتبطة بالمعارضة السابقة، على مثل هذا التمويل. وتحتل وسائل الإعلام المدعومة حزبياً ووسائل الإعلام الموازية معظمَ الفضاء الإعلامي في كردستان، وتوفّر فرص عمل للصحافيين، وتشارك في استمالة بعضهم، وتعزّز عبادة الشخصية لبعض الزعماء، وتوفّر الدعاية لكلا الحزبين، وتشكّل الرأي العام وتؤثّر عليه، وتهاجم بعضها البعض، كما تهاجم الأحزاب الأخرى ووسائل الإعلام المستقلة.
نقاط الضعف الهيكلية والعمليات الديناميكية
على الرغم من نجاح الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في تأسيس وترسيخ دعائم النظام السلطاني، يعاني هذا النظام من نقاط ضعف هيكلية وعضوية. إضافةً إلى ذلك، فإن تطوّره الداخلي أكثر حيوية بكثير مما يبدو عليه. هذا الوضع يمكن أن يوفّر (على نحو غير مقصود) فرصاً لإجراء إصلاحات، وظهور مجموعات سياسية واجتماعية جديدة، ونظام سلطاني ممزّق، ومشهد سياسي أكثر تعدّدية. وإذا لم تؤدّ هذه التغييرات المحتملة إلى زعزعة الاستقرار والاقتتال الداخلي، فإنها سوف تعود بالنفع على التطور الديمقراطي في الإقليم.
في الوقت نفسه، تمثّل نقاط القوة الأساسية للنظام، أي الشخصانية والسلالية، أكبر نقاط ضعفه. ذلك أن مركز النظام السلطاني هو الزعيم وليس المؤسّسات. وفي حين يسيطر الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على مؤسّسات الدولة، يتم اتّخاذ القرارات على أساس الأهواء الشخصية للزعيم وليس عبر تلك المؤسّسات. ويعاني كلا الحزبين من صراعات خطيرة على الخلافة تهدّد تماسكهما الداخلي ووحدتهما. وسيختلف شكل وحجم أي تغيير محتمل في الحزبين استناداً إلى هياكلهما وخلفياتهما المختلفة.