طبيعة الصراع في المنطقة وتداعياته يؤشر إلى أن الأكراد يمثلون رقماً مؤثراً في المعادلات الإقليمية خصوصاً وأن قضيتهم شكلت وضعاً معقداً ومتشابكاً في المنعطفات التاريخية. بعض المحللين يرون إنهم أداة ضغط وعنصر توازن مهم، وأن إقامة أي كيان لهم هو جزء لا يتجزأ من مشروع تغيير خارطة المنطقة وتفكيك دولها إلى دويلات عرقية وإثنية وطائفية ومذهبية وقبلية عربية وغير عربية، فما هي حقيقة وضعهم في معادلة التغيير الإقليمي؟
تاريخياً لم تعرف كردستان كبلد مستقل، وجغرافياً تتوزع على أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسورية، ويقدر سكانها بـ35 مليون نسمة، يقطن أغلبهم في الدول السابقة إضافةً إلى أرمينيا وأذربيجان وباكستان وبلوشستان وأفغانستان، كما أن أغلب أقاليم كردستان غنية بالثروات المعدنية والمناجم.
القضية الكردية
برزت القضية الكردية دولياً مع اتفاقية «سايكس بيكو» العام 1916، مع إن هذه الاتفاقية تجاهلت مطالب الأكراد بحق تقرير المصير، لكنهم نجحوا في تدويلها العام 1920 بإدخال ثلاثة بنود في معاهدة «سيفر» التي أبرمها الحلفاء، إذ نصت على «مساعدة الأكراد في إقامة دولتهم القومية على مراحل». وإزاء ذلك، كانت تركياً متشددة ومصرة على أن قضيتهم داخلية ويمكن حلها.
عندما تكرست شرعية نظام أتاتورك، ألغت حكومته جميع الاتفاقيات والمعاهدات ومنها معاهدة «سيفر»، ومما زاد الطين بلة أن عززت معاهدة «لوزان» في 1923 هيمنة تركيا وإيران وبريطانيا وفرنسا على الشعوب الكردية، فلم يرد ذكرهم أو ما ورد بمعاهدة «سيفر»، ومنها خاض الأكراد نزاعات مسلحة مع حكوماتهم بهدف إنشاء كيان كردي مستقل. بعدها ألحقت بريطانيا «جنوب إقليم كردستان» بالعراق، واستمر وضعهم قائماً على حاله حتى تأسيس «منطقة الحكم الذاتي في كردستان العراق» العام 1992، ولم يعترف بها العراق رسمياً إلا في 2005.
يجد المحللون أن نشأة «كردستان العراق» شكّلت منعطفاً نوعياً لما حققه أكراد سورية في تأسيس مناطق تحكم بإدارة ذاتية محلياً في «روج آفا»، أو ما يعرف «غرب كردستان» منذ 2013، والتي لم يكن تحققها لولا تطورات الحرب على سورية والفوضى الأمنية وما أدت إليه من كسر الحدود وتفكّك دول المنطقة وضعف جيوشها وفقدان سيطرة الإدارة المركزية على المناطق والأقاليم بعد سيطرة تنظيم «داعش» والجماعات المسلحة وتمدّدها على مساحات جغرافية واسعة في العراق وسورية.
كما مثلت معركة «عين العرب/ كوباني» انعطافة أخرى وفرصة تاريخية في رصيد الأكراد حيث تعاطف معهم العالم خصوصاً حين امتنعت تركيا عن مساعدتهم لولا الضغط الأميركي عليها، بالسماح لمقاتلي «البشمركة» التابعين لأكراد العراق بالدخول إلى كوباني عبر أراضيها، وهذا برأيهم عزّز من ترابط القومية الكردية التي تثير القلق التركي، الذي يجد في استقلالهم تهديداً للقومية التركية ووحدة أراضيها، لاسيما بعد فوز «حزب الشعوب الديمقراطي الكردي» وحصوله على 80 مقعداً في انتخابات 2015.
فرصة تاريخية... ولكن
وعليه من غير المستغرب أن يجد الأكراد فرصتهم التاريخية في ظل هذه التحولات والمتغيرات السياسية والديموغرافية، وضرورة انتهازها حتى ولو بالتحالف مع الشيطان، فهم محاطون بمخاطر «داعش» وأخواتها وتهديداتهم العسكرية والسياسية، وهذا ما دفعهم إلى تأسيس مناطق تحكم بإدارات ذاتية أثرت على توازنات المنطقة، خصوصاً وقد لعب «الحزب الديمقراطي الكردستاني» السوري فيها دوراً ملتبساً حيال المعارضة والنظام السوري الذي ساهم في تسهيل استيلائه على المناطق التي أخلاها دون قتال، بيد إن الأمور لا تجري كما تشتهي سفن الأكراد، لماذا؟ هناك جملة من التحديات.
شهدت تركيا تطورات سياسية وعسكرية وأمنية تزامنت مع إعلان الحكومة الانضمام للتحالف الدولي ضد الإرهاب، كما شنت حرباً مزدوجةً على تنظيم «داعش» من جهة، ومن جهة أخرى على قواعد «حزب العمال الكردستاني» في جبال قنديل شمالي العراق، وانهيار الهدنة بينهما بعد تفجيرات مدينة سوروتش ذات الغالبية الكردية. وبالتوازي نفّذت تركيا حملة اعتقالات واسعة لعناصر ومؤيدي «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي في تركيا واتهامه بتأييد «العمال الكردستاني» والتهديد بإغلاقه ورفع الحصانة عن قادته. وقد أرجع المراقبون أسباب الهجمة إلى نتائج الانتخابات وتأثيرها في تقويض حزب «العدالة والتنمية» وعدم حصوله على أغلبية برلمانية، كما أن الهجمة تفسح المجال للرئيس رجب طيب أوردغان بالذهاب إلى انتخابات مبكرة من دون «حزب الشعوب الديمقراطي»، ما يعني تفرده بالساحة وتحكمه بسلطة القرار وصلاحيات الحكومة ورئيسها.
معلوم أن «حزب العمال الكردستاني» شارك بقوة في الحرب على «داعش» شمال العراق وفي سورية، وهذا بدوره ساعد في سيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي»، أكراد سورية على الشريط الحدودي السوري مع تركيا وعلى كوباني لجهة الحدود العراقية، وعليه -حسب المراقبين- فإن الضربات العسكرية التركية على مواقع «العمال الكردستاني» تهدف إلى إضعاف قدرته العسكرية ومنعه من مساعدة الأكراد السوريين للتمدّد من كوباني والسيطرة على المنطقة الفاصلة بينها وبين عفرين، وهذا يترافق مع إقامة المنطقة العازلة داخل الأراضي السورية بهدف تقسيم مناطق الأكراد ومنع ارتباطهم الجغرافي وتمددهم للسيطرة على الشريط الحدودي وإقامة دولتهم المستقلة.
في هذا الشأن، ترجح بعض التحليلات وجود اتفاق تركي-أميركي يتضمن شرطاً لانضمام تركيا للتحالف الدولي وفتح قاعدة إنجرليك أمام طيرانه، مفاده عدم دخول «الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري» إلى المناطق المحرّرة من «داعش»، كما تردد وجود تحذير أميركي للأكراد بعدم عبورهم غرب نهر الفرات وإجراء تغييرات ديموغرافية في المنطقة.
تناقض الخيارات الكردية
أما التحدي الثالث فيتمثل بالضعف الذي تعاني منه الأحزاب الكردية والتشرذم والتجاذبات والخلافات الفكرية، وتناقض الخيارات واختلاف المصالح بسبب الأجندات الإقليمية. وأبرز تجلياتها الخلاف بين حكومة كردستان العراق بزعامة مسعود البرزاني المتحالف مع تركيا وبين «حزب العمال الكردستاني» وتحالفاته الملتبسة بين المعارضة والنظام السوري. فالبرزاني يعتبر تركيا حليفاً استراتيجياً وليس خصماً، وبينه وبين الأتراك اتفاقات لتصدير النفط والاعتماد على نظامهم المصرفي لإعادة تدوير العائدات وتطوير البني التحتية، ما يعنى إنه على نقيض علاقة الأتراك بـ»حزب العمال الكردستاني».
كما أن أولوية البرزاني تتمحور حول اعتراف إقليمي ودولي لتثبيت «كردستان العراق»، وهذا يتعارض مع تحصن «العمال الكردستاني» في الجبال، علاوةً على سيطرة «حزب الوحدة الديمقراطي الكردي السوري» على «روج آفاز» ليس في مصلحة البرزاني بالطبع، إلى جانب محاولات حزب «العمال الكردستاني» منع «حزب الحياة الحرة الكردي الإيراني» من التحرك ضد النظام الإيراني، فكل هذه التجاذبات والتعارضات تهدد توازنات القوى الكردية وتضعف حضورها في التسويات والمعادلات الإقليمية.
ختاماً، التحديات التي يواجهها الأكراد في معادلة التغيير الإقليمي وتحقيق كيان أو كيانات مستقلة بهم تبقى مرهونةً بوضعهم كأداة ضغط وعنصر توازن، خصوصاً إذ ما اعتبرت الولايات المتحدة أن قيام كيانهم يأتي في سياق منع تمدد تنظيم «داعش» أو تحجيمه أو للضغط على الدول الإقليمية كتركيا وإيران.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4729 - الثلثاء 18 أغسطس 2015م الموافق 04 ذي القعدة 1436هـ