(ينشر المقال بالتعاون مع مشروع منبر الحرية). الحالة السياسية المتحركة في العالم العربي، بعد ثورات الربيع العربي، تتطلب -وبصورة ملحة تصل لدرجة الضرورة النهضوية الكبرى- ثقافة سياسية جديدة، والدخول في مرحلة وعي سياسي جديد قائم على القطع الكامل والجذري مع ثقافة التسلط والقمع والاستبداد التي سادت في العالم العربي لأكثر من نصف قرن، كما أن الحاجة ملحة لبناء ثقافة المواطنة القائمة على الحرية والكرامة الإنسانية، وحل جميع التناقضات والصراعات الأفقية والعمودية بأسلوب وممارسة ديمقراطية تتلاءم مع متطلبات بناء الدولة الديمقراطية العصرية التي تنبذ العنف في الممارسة السياسية، وتنشد الحوار والسلم والتنمية الشاملة في جميع قطاعات المجتمع.
يمكن تعريف الثقافة السياسية بأنها «مجموعة المعارف والاتجاهات السائدة نحو شئون السياسة والحكم، الدولة والسلطة، الولاء والانتماء، الشرعية والمشاركة «وتعني أيضا منظومة المعتقدات والرموز والقيم المحددة للكيفية التي يرى بها مجتمع معين الدور المناسب للحكومة وضوابط هذا الدور، والعلاقة المناسبة بين الحاكم والمحكوم.
لقد ظهر مفهوم الثقافة السياسية في منتصف القرن العشرين ليؤكد أهمية دراسة الأبعاد الذاتية في إطار تحليل الظاهرة السياسية، وقد اكتسب المفهوم ذيوعا كبيرا انعكس في كم هائل من الدراسات التي استخدمته خلال عقدين تاليين.
يمكن القول إن التوافق بين الثقافة السياسية والبنية السياسية مسألة حيوية وضرورية، وعند حصول التفاوت بينهما، فإن النظام يتعثر ويتعرض تدريجيا للاضمحلال والزوال.
إن العديد من المشكلات الداخلية في العالم العربي تحتاج إلى رؤية جديدة، تتجاوز النمط التقليدي في معالجة هذه المشكلات، فالاعتراف العلني بهذه المشكلات مسألة مهمة تدخل في صلب الثقافة السياسية الجديدة، ومن ثم الوصول إلى قرارات مهمة لمعالجة الكثيرمن المشكلات الداخلية (الأقليات– الديمقراطية– الاختلاف الطبقي– التعليم– الإعلام– التنمية– الاقتصاد– التعامل مع السياسة الدولية والإقليمية) هذه القرارات تكون ناتجة من عملية التفاعل الديمقراطي عبر هيئات ومؤسسات منتخبة ديمقراطيا، بعيدا عن التأثير الحكومي السلطوي واللعب بصناديق الاقتراع أو شراء الولاءات وما شابهها من إجراءات الفساد البيروقراطي والتعامل الإعلامي الذي يفتقد لأبسط مقومات الإعلام الديمقراطي المنفتح والشفاف والصريح، إنه الإعلام الذي يخدم أجندة خاصة بالدولة التسلطية والنظام الاستبدادي، الذي أوصل البلدان العربية إلى التدمير الكامل بالضد وبالعكس وبالنقيض الكامل مع شعارات براقة وطنانة رفعت طيلة خمسة عقود، تم الضحك من خلالها على الشعوب العربية ومن ثم التعامل معها بصورة لا تحترم عقولها ومشاعرها واستغلت بساطتها وصبرها، والاستمرار بهذه السياسة دون أي بادرة لمحاولة تغيير المسار لإجراء عملية تغيير سياسي بنتائج ايجابية، والدليل على ذلك هو فشل الإصلاح في العالم العربي في فترة التسعينيات، مما فاقم الأوضاع العربية الداخلية واشتعلت الثورات العربية وكانت أشبه بالانفجار الثوري المدوي من تونس إلى سورية.
ويمكن القول بأن عملية تأسيس وبناء ثقافة سياسية جديدة، تتجاوز رواسب الانحطاط وموروثات الاستبداد السياسي، وترتبط بطبيعة الهدف أو الأهداف المتوخاة من هذه العملية. وعليه فإن الغاية المتوخاة من الثقافة السياسية الجديدة، هي إشاعة النمط الديمقراطي في الحياة العامة للعرب والمسلمين. بحيث تكون الديمقراطية كثقافة وآليات ووسائل ونظم، هي السائدة في الحياة السياسية وإدارة شئون الدولة والسلطة، كما هي جزء حيوي في النسيج الاجتماعي والثقافي.
فالثقافة السياسية الجديدة التي ننشدها ونتطلع إليها، هي تلك الثقافة التي تعزز التطور الديمقراطي والحقوقي في مجتمعاتنا، وتحول دون بروز السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية المؤسسة والمفضية إلى الديكتاتورية والاستبداد.
إننا بحاجة إلى ثقافة سياسية تعزز الخيار الديمقراطي في صفوف المجتمع، وتعمل على تهيئة المناخ لرفض كل محاولات تكميم الأفواه والعودة بالمجتمع إلى الأنظمة الشمولية التي تلغي الإنسان وحقوقه، وتحارب كل محاولاته للتحرر والانعتاق من ربقة الاضطهاد والقهر السياسي والاجتماعي.
ومحاولات الأنظمة الشمولية في رفع شعارات تقدمية لتعبئة المجتمع باتجاهها، دون خطوات عملية تترجم هذه المحاولات، أضحت عملية مكشوفة، ولا تثمر إلا المزيد من التوتر والاحتقان.
كما أن كثيرًا من التناقضات والتوترات السياسية والاجتماعية الداخلية، لا يمكن معالجتها من دون ثقافة سياسية جديدة، تؤسس لنمط جديد من العلاقة والتواصل بين مكونات المجتمع وقواه، قوامها التسامح والحرية وسيادة القانون وقيم حقوق الإنسان. فكثير من مشكلات الداخل في المجالين العربي والإسلامي، بحاجة إلى رؤية وحلول جديدة، تتجاوز النمط التقليدي في معالجة هذه المشكلات. فأزمات السلطة وعلاقتها بالمجتمع وتعبيراته المتعددة وطبيعة الموقف من التعدد والتنوع المذهبي والقومي والعِرقي المتوافر في العديد من المجتمعات، بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة، تعيد صياغة العلاقة وعلى أسس جديدة بين السلطة والمجتمع، كما أنه لا يمكن تجاوز معضلات التمييز الطائفي والعِرقي والقومي، بدون ثقافة سياسية، تعيد إلى التنوع كينونته ومتطلباته، وترسي دعائم المواطنة وأسس الوحدة وفق رؤية وثقافة لا تلغي الخصوصيات الثقافية لكل فئة أو شريحة في المجتمع والوطن، دون أن تشرع في الانكفاء والانحباس في الذات.
الآن مع وجود مؤثرات دولية وإقليمية ومع عاصفة الحزم التي أعلنتها السعودية لوقف التدخل الإقليمي في شئون الدول العربية، تبرز الحاجة لنشر ثقافة سياسية جديدة قائمة على الوعي والمشاركة السياسية النابعة من التنشئة السياسية السليمة والتداول السلمي للسلطة وإشراك جميع قطاعات وشرائح المجتمع في القرار السياسي المتعلق بالداخل أو بالخارج.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 4726 - السبت 15 أغسطس 2015م الموافق 30 شوال 1436هـ