العدد 4725 - الجمعة 14 أغسطس 2015م الموافق 29 شوال 1436هـ

نصوص الماء والروح والجسد والضوء والليل أيضاً

ليلى السيِّد في «كرز ومطر»...

هل يعاني الشعر في البحرين أزمة في وجه من وجوهه؟ لن ندخل في تصنيف شعر نسائي وآخر يقابله. لن ندخل في تصنيف جيل السبعينات والثمانينات والتسعينات، والذين التحقوا بنادي الشعر في الألفية الجديدة. تلك تصنيفات لها مقامها في الدرس؛ لكن الأزمة في لون/ فن، سمِّه ما شئت لا تتغاضى عن حقبة زمنية أو جيل، فتتجاوزه إلى حقبة أخرى أو جيل بعينه. والأزمة أيضاً لا تنتخب النوع كي تورِّطه في أزمة. الأزمة في وجه من وجوهها: المراوحة في التجربة. التوقف أحياناً. إعادة إنتاج ما تم صوغه، بتحايل مكشوف، ولا يستعصي على الملاحظة.

من وجوهها أيضاً، الاكتفاء بما تم إنجازه. النوم على ما تحقق. وتلك ظاهرة باتت أسلوباً في التعاطي والتعريف والتقديم. تقديم تجربة لنفسها. تظل في حدود «ما تمَّ»، لا في حدود الاشتغال الحالي على مشاريع تقدِّم قيمة والتفاتاً، وتكون موضع دراسة ونظر.

وجه من وجوه الأزمة هيمنة أصوات على أكثر من حقبة وجيل. بمعنى آخر، عجز أي ساحة عن ضخ أسماء وأصوات جديدة تكون فارقة، ومتجاوزة، أو على مقربة من تجاوز المشاريع التي سبقت وما يبدو أنها تأبَّدتْ.

وجه من وجوه الأزمة، تلك الاصطفافات التي حدثت في العام 2011، وحتى يومنا هذا. توريط الثقافي والإبداعي والفكري، بعملية الفرز التي حدثت وماتزال. لذلك أثره اليوم وغداً، حين الحديث عن المشهد الإبداعي هنا. الصورة لم تعد غائمة؛ بل هي شديدة الوضوح بالإمعان في مثل ذلك التوريط.

تلك مقدمة ليست بمنأى عمَّا عانى، ويعاني منه المشهد الإبداعي عموماً، والشعري خصوصاً؛ لكن ثمة من يسهر على مشروعه بعيداً عن المنصات والمنابر والجهات التي من المفترض أن تكون قاطرة لحمل الصورة وواقع الحراك الثقافي. ضمن ذلك الاشتغال والسهر، تأتي تجربة الشاعرة ليلي السيِّد، في مجموعتها «كرز ومطر» الصادرة عن «منشورات الجمل» العام 2013، والتي نقف عندها على استغراق في ما تبادر إليَّ « نصوص الماء والروح والجسد والضوء والليل أيضاً».

أحسبها ضمن أصوات نسائية ملفتة، ظلَّت تشتغل بهدوء ومن دون ضجيج، ومن دون تنطُّع للمنصات والمنابر الإعلامية. قبل الفنتازيا التي نمرُّ بها، وبالضرورة بعدها.

ولا ترمي هذه الكتابة التماس منهج نقدي يختبر نوايا النص، أو يمارس وصاية عليه، بقدر ما تلتمس متاخمة للشعر فيه ومنه. تلك المتاخمة، وبأداة الشعر، هي الأقدر على إضاءة - ربما - ما لم يقله النص، أو ليس هو ذلك مجاله.

«كرز ومطر»، هي نصوص الجسد بامتياز - ربما - بتلك التوليفة التي تجمع النقائض والأضداد. ليس لعباً بالكلمات، بقدر ما هو احتراف، وأحياناً مجالسة الغواية الجميلة. تلك الحوارية الشفَّافة. حوارية الفرد لنفسه. ذهاب في الأوردة واليباس في الوقت نفسه. احتراف الذهاب إلى ينابيع وموارد محلُّها الجسد هذه المرة (الشفاه). المياه في انهمارها. قلت: توليفة لا تتأتَّى إلا بالقدرة على استحضار النقائض والأضداد. وفي ذلك شعرية ملفتة، تكشف عن حساسية على قدر عالٍ من الانتباه والحضور، والإمساك بما يمكن تسميته «عصَب الصورة». المرايا تتجاوز شيئيتها، لتصبح مأوى. لا تهم طبيعته، بقدر ما يتيحه من استواء، وحصة من طمأنينة.

«قالت: سآويك إلى مرآتي فتنفسني

قالت: أنا فتاتك فصُبَّ الماء على قدمي.

تجري أنهارك في أوردتي اليابسة:

أحترف بك الأخضر شفة شقيقة أخرى...».

لا تنتهي الحوارية تلك بين الأنا والأنا، مشكِّلة استدراجاً ما للقارئ كي يكون جزءاً منها؛ أو على الأقل، كي يكون مُتاخماً لها.

لا تحضر الخطايا باعتبارها موضوع ندم وبراءة، بقدر حضورها ضمن الفضاء الشعري الذي تتحوَّل معه إلى شيء آخر، من خلال تلك الجمالية غير المغرقة في غموضها، ولا انكشاف تفاصيلها مثلما الفضيحة.

تحضر الخطايا

«أتكلَّم ليس عن خطاياي فحسب

بل كل خطايا الإلهات اللواتي

يأسْن وهنَّ يعظن بالحبِّ عن كراهية العالم».

ولا شيء مثل الليل في امتلائه بالشعر. حبْر آخر هو. ضوء آخر هو أحياناً. كيف يمكن للأشياء التي هي في النفي من الجمال، أن تمتلك تلك الشاعرية اللانهائية؟ ليس الليل وحده. يكمن وراء كل ذلك التخليق، وتلك القدرة على التحويل، شاعر ولغة ولحظة اقتناص، وذهاب أيضاً في العفوية التي تقول كل شيء. كل شيء من الحكمة، والأهم من كل ذلك: ترك التساؤل/ الأسئلة معلَّقة ريثما يخرِّب ويشي الصباح بكل متوارٍ خلف أستاره وأسراره. كثيراً ما نهرب إلى الليل أيضاً. نجد فيه ضوءاً آخر، وقدرة على التماهي معه في كثير من الأحيان، أكثر من الأوقات المُشْرَعة، تلك التي كثيراً ما تجعلنا عرضة لشباكها والطعن.

«حين يدعوكَ الليل لاحتراف عتمته

قل له: مازال قمري بين ذراعي أدعوه فيجيب سُكري

قل لهم: إنَّ الأرض تورِّث من شاءت عشقها

وقد شاءتني لحظة أقصيتُ خزائن حزني في أرضها

وأذقْتها من ريقي...».

وحين التمست اختزالاً للمدى الذي تذهب إليه النصوص بجعلها «نصوص الماء والروح والجسد والضوء والليل أيضاً»، فليس لاختلاطها وتداخلها؛ بل بالوحدة الجمالية والتوظيف بطبيعته وعفويته، دون سابق إصرار. ترك النص هكذا سيَّالاً في البراري التي لا تخلو من وجع، أو ليل أيضاً. وأكثر النصوص استحواذاً على القارئ تلك التي لديها القدرة على أن تكون متجددة كلما عاد إليها. تظل محتفظة بطزاجتها ودفئها، والخروج منها بحصيلة مفرحة من الدهشة.

«هذا ليلٌ ليس له وجه حلم

الليل طويل في وجهكما

وجه حضارات تتهاوى وتنشد أخرى

اشتهاء هنا، وطفل نائم عن رحمها

وجه ليلى شائك، تموت نشوته لحظة غوايتك».

ومن حيث ابتدأ النظر إلى نصوص المجموعة ثمة مقطع يقول الليل والصوت والماء (النهر)، والضوء (الكواكب)، والجسد باعتباره مملكة الحاضر الغائب!

«جنَّ الليل وحبيبي لا يرفع صوته

خبا نهر ولعه، أم باتت كواكبه بعيدة،

أن استسهل ظلِّي؟!

جنَّ الليل وجسدي ظلام»!

ضوء

يُذكَرُ، أن ليلى السيد، من مواليد البحرين العام 1967. نالت بكالوريوس اللغة العربية العام 1992، ودبلوم الدراسات العليا - للغة العربية وآدابها، جامعة القدِّيس يوسف في بيروت العام 2002. صدر لها: «مررنا هناك»، «مذاق العزلة»، مليان كفي حبر»، «أطرق بوابات البحر»، «أدخل برج الغزالة»، «دع طيرك يبتهج»، و «من يرث ابتسامتي»، وهو عبارة عن ترجمة باللغة الإنجليزية لديوانها الأول، إضافة إلى قصائد جديدة أخرى مترجمة إلى الانجليزية والإسبانية والألمانية.

ليلى السيد
ليلى السيد

العدد 4725 - الجمعة 14 أغسطس 2015م الموافق 29 شوال 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً