ثمة رقم قياسي لم تكن فرنسا حقيقة راغبة بالتميز به، وهو عدد «المتطرفين» الفرنسيين الذين يلتحقون شهريا بالجماعات المتطرفة في سوريا والعراق، وتحديدا «داعش» وجبهة النصرة. ذلك أن فرنسا تحتل المرتبة الأولى بين الدول الغربية «المصدرة» للمتطرفين إلى سوريا والعراق، إذ يبلغ عدد مواطنيها أو المقيمين على أراضيها الذين التحقوا بالتنظيمات الجهادية في وقت أو آخر، بحسب تقرير صادر عن المديرية العامة للأمن الخارجي (المخابرات الخارجية) 1462 شخصا، نحو النصف منهم موجودون حاليا ما بين سوريا والعراق.
وإذا كانت الأمم المتحدة تقدر عدد الأجانب (أي غير السوريين والعراقيين) الذين يقاتلون تحت لواء التنظيمات الجهادية بـ25 ألف شخص، فإن فرنسا تأتي في المجموعة الأولى، إلى جانب روسيا، والمغرب وتونس متقدمة بذلك على كل البلدان الأوروبية ليس في النسبة ولكن في العدد، بحسب تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط اليوم الثلثاء (11 أغسطس/ آب 2015).
بيد أن خوف السلطات الفرنسية التي تحذر دائما من عودة هؤلاء المقاتلين إلى الأراضي الفرنسية ومما قد يرتكبونه من أعمال إرهابية ومن الخبرات التفجيرية والقتالية التي اكتسبوها ميدانيا، ليس محصورا بهذه الفئة من الأشخاص بل إنه يتناول أيضًا الذين تبنوا الفكر المتطرف أو الذين يتعاطفون مع التنظيمات المتشددة أو بدت منهم بعض المؤشرات التي تدل على ذلك.
وبحسب إحصائيات وزارة الداخلية الفرنسية، فإن الأجهزة الأمنية تلقت، منذ أن وضعت بتصرف المواطنين أرقاما هاتفية محددة وخلية متخصصة، اتصالات تفيد بأن 3142 شخصا بدت عليهم ملامح التشدد والراديكالية، مما يعني دخولهم في دائرة المتشددين.
واللافت في إحصائيات الوزارة المعنية أن 35 في المائة من هؤلاء من الفتيات أو النساء وربعهم من القاصرين، وأن 40 في المائة من هؤلاء هم من الذين تركوا ديانتهم الأصلية واعتنقوا الإسلام. وفيما كانت المساجد والسجون في السابق الباب الرئيسي للدخول في الفكر الجهادي، تبين دراسة علمية أن 90 في المائة من الذين انجذبوا إلى الفكر المتطرف، إنما تأثروا بالدرجة الأولى بشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. كما أن تسعة في المائة من هؤلاء قرنوا القول بالفعل، والتحقوا بالتنظيمات المتشددة في سوريا والعراق.
في عددها ليوم أمس، كتبت صحيفة «لو موند» واسعة الانتشار في صفحتها الأولى «جهادي فرنسي من أصل سبعة يموت في سوريا». وفي التفاصيل، أوردت الصحيفة أرقاما رسمية تبين أن 126 متطرفا فرنسيا أو مقيما على الأراضي الفرنسية قتلوا في سوريا «وحدها»، إما في المعارك أو في عمليات القصف أو في عمليات انتحارية.
ومن بين «المتطرفات» البالغ عددهن 158 امرأة واحدة ماتت فقط منهن، فيما قتل خمسة أحداث من بين الـ16 قاصرا ذهبوا إلى سوريا للقتال. لكن القسم الأخير لا يعكس واقع وجود الأحداث إلا جزئيا، لأن عائلات كثيرة لا توجد بشأنها إحصائيات محددة.
وتبين الإحصائيات الرسمية المتوافرة أن عدد القتلى الفرنسيين قد زاد منذ بداية العام الحالي وحتى نهاية يوليو (تموز) من 75 قتيلا إلى 126 قتيلا، أي بمعدل سبعة قتلى في الشهر. وهذه الزيادة مرتبطة بعاملين: ارتفاع عدد المتطرفين الفرنسيين محليا حيث بلغت الزيادة 210 أشخاص للفترة نفسها والمهمات الميدانية، بما فيها العمليات الانتحارية التي أخذت تعطى للجهاديين الفرنسيين ناهيك بالخسائر التي تصيب التنظيمات الجهادية، إن عبر القصف الجوي أو المعارك التي تتواجه فيها مع قوات النظام والميليشيات التابعة له أو فيما بينها.
واللافت للنظر «وهو مصدر قلق حقيقي للمسؤولين الأمنيين الفرنسيين» أن المتطرفين الفرنسيين أو المقيمين على الأراضي الفرنسية قد نفذوا 11 عملية انتحارية أوقعت عشرات القتلى منها ثماني عمليات هذا العام. ولعب معتنقو الديانة الإسلامية حديثا دورا أساسيا فيها، إذ نفذوا منها خمس عمليات بينما نسبتهم من بين المقاتلين لا تزيد على الربع. ويقدر الجانب الأميركي عدد مقاتلي «داعش» الذي سقطوا في عمليات القصف الجوي منذ عام بـ10 آلاف شخص. وكان المئات من هذا التنظيم قد قتلوا في محاولة التنظيم الاستيلاء على كوباني (عين العرب)، وفي المعارك اللاحقة مع الأكراد في سوريا.
لا يقتصر دور المتطرفين على العمل الميداني بل يبدو أن إحدى مهماتهم التعامل مع الخلايا الجهادية الموجودة في فرنسا نفسها. وقد تشكل حالة المدعو سيد أحمد غلام، وهو طالب جزائري سعى في 19 أبريل (نيسان) الماضي للقيام بعمل إرهابي يستهدف كنيسة في ضاحية فيل جويف الباريسية أفضل مثال على دور الجهاديين الفرنسيين «عن بعد». ذلك أن تحقيقات الأجهزة الأمنية والقضاء أثبتت أن سيد أحمد غلام الذي وجدت في حوزته أسلحة حربية (رشاشات كلاشنيكوف ومسدسات) وسترات واقية من الرصاص كان ينفذ أوامر تأتيه من فرنسيين موجودين على الأراضي السورية.
وبينت التحقيقات أن غلام ذهب إلى تركيا مرتين، وأن التعليمات كانت تصل إليه بواسطة الإنترنت بما في ذلك التعليمات الدقيقة الخاصة بانتقاء الأهداف والاستحواذ على الأسلحة والحصول على سيارة مسروقة وخلاف ذلك من الاستعدادات اللوجيستية والعملانية. وحالة غلام ليست فريدة من نوعها بل برزت من خلال التحقيقات الخاصة التي أجريت بخصوص عمليات إرهابية سابقة.
ويستغل المسؤولون الفرنسيون كل مناسبة للإشارة إلى أن الخطر الإرهابي ما زال مخيمًا على فرنسا رغم الاحتياطات الكثيرة والتدابير الأمنية والقوانين التي سنت لتداركه. ويعي المسؤولون أن النزول بهذه المخاطر إلى درجة الصفر أمر غير متوافر بسبب طبيعة التهديدات الإرهابية ووجود خلايا نائمة وما يسمى بـ«الذئاب المنفردة» التي تعمل من جانبها وبعيدا عن أي هرمية. ولذا، فإن السلطات تعول على أجزتها المخابراتية لتعطيل المحاولات الإرهابية، قدر الإمكان، قبل أن تتحول إلى اعتداءات تعيد الخوف إلى النفوس.