يصادف اليوم العالمي لمناهضة التعذيب 26 يونيو/ حزيران الجاري، وهي الذكرى الثانية والعشرون لليوم الذي بدأ فيه نفاذ «اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة» حيث بدأ نفاذ هذه الاتفاقية في 26 يونيو 1987م. وبعد مرور 12 عاما وبالتحديد في 18 فبراير/ شباط 1998م انضمت البحرين لهذه الاتفاقية وتحفظت على بعض موادها، ثم عادت ورفعت التحفظ عنها في العام التالي. ما يعنى أن ممارسة التعذيب في البحرين محرمة رسميا بحكم المصادقة على هذه الاتفاقية الدولية. وما جاء في دستور مملكة البحرين في الفقرة (د) من المادة 19 من الباب الثالث منه والتي تنص على «لا يعرض أي إنسان للتعذيب المادي أو المعنوي، أو للإغراء، أو للمعاملة الحاطة بالكرامة، ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك، كما يبطل كل قول أو اعتراف يثبت صدوره تحت وطأة التعذيب أو الإغراء أو تلك المعاملة أوالتهديد بأي منها». وبالطبع فإن التعذيب الجسدي والنفسي (المعنوي) يدور في مملكة البحرين بين النفي والإثبات كما في غيرها من دول العالم.
وممارسة التعذيب سلوك قديم يعود إلى الجذور الأولى من تاريخ البشر، وليس محل هذا المقال أن يسرد ما يمارس من تعذيب على مدى التاريخ البشري الممتد إلى ماقبل ألفي عام، في حين يتعين -آنيا- التعرض لوقائع ممارسة التعذيب ونحن في بداية الألفية الثالثة، من خلال واقع حضور الشاهد والمشهود، ومن واقع معايشة ممارسي التعذيب والضحايا بين ظهرانينا. ما يجعل من العمل الفعلي مؤثرا وناجزا في دائرة الزمان الحالي والمكان المحدد، في سبيل معالجة الانتهاكات كوقائع في صيرورتها الآنية، قبل أن تتحول بفعل التقادم الزمني كتاريخ للأجيال القادمة.
لاغرو من التعرض -كإطار عام- لما شاهده ملايين الناس، على شبكة الإنترنت من خلال مشغل «اليو تيوب» قبل أسابيع، تصوير لعملية تعذيب لم يستطع معظم المتصفحين أو المشاهدين الاستمرار في مشاهدتها -لبشاعتها و تعارضها مع طبيعة قدرة الإنسان الطبيعي على تحمل الاستمرار في النظر إليها- عندما يرون رجلا... يستعين برجال لتعذيب رجل بطريقة مقرفة مقززة للنفوس، بحيث لا يمكن وصف الطبيعة السيكولوجية لممارس عملية التعذيب هذه، على رغم اشتهاره بالثراء ووجاهته وانتماءه لعائلة حاكمة ينعتها الناس بطيب الخلق وكرامة النفس والأصالة العربية!!
ومشهد آخر، قبل أكثر من عام، عندما شاهد الملايين صورا تعرض ما كان يقوم به الجنود الأميركيين للسجناء في العراق، بشكل فج وممارسات مشينة، تجلت في وقائعها أبشع الممارسات التي تمر على مخيلة عامة البشر، حتى أصبح الأمر خارجا عن سيطرة السلطات الأميركية، ما حدا بها أن تتعاطى مع الحدث بكونه انتهاكا لا يمكن أن تجنح السلطات لنفيه وقد أثبتته الوقائع المصورة، وهو سلوك صادر من الإنسان الديمقراطي المتحضر، والذي عاش في بيئة الحريات وحقوق الانسان ومبادئ التقدم الغربي، ولكن ما يتعرض له السجناء في كثير من سجون العالم وفي الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية بشكل أخص يندرج تحت قضايا التعذيب، والتي ينقسم حيال إثباتها أونفيها الأطراف إلى قسمين، الأول: ادعاء الضحية، والثاني: نفي الجلاد أو الأجهزة الأمنية التي تستخدمه.
قضايا التعذيب تدور بين النفي والإثبات، نفي السلطات ممارستها التعذيب، وإثبات ضحايا التعذيب تعرضهم لهذا الانتهاك. حيث يؤكد الضحايا تعرضهم للانتهاك، وتنفي السلطات -الجلادون- ممارسة هذا الانتهاك. وهي جدلية قائمة، ومشكلة تعاني منها جميع شعوب العالم، ويقف ناشطو وخبراء حقوق الإنسان على خط المواجهة والتحدي، من خلال ابتكار مختلف الأساليب والأدوات الكاشفة لممارسة التعذيب ضد الضحايا، وذلك من خلال المقابلات الشخصية مع ضحايا التعذيب، ومعاينة أعضاء أجسام الضحايا، واعترافات ممارسي التعذيب النادمين، وفي حالات محدودة يتم فيها التصوير الفوتوغرافي أو بالكاميرات، وفي كثير من الحالات معاينة أجساد ضحايا التعذيب التي أودى التعذيب بحياتهم.
وقضايا ممارسة التعذيب هي من القضايا التي أرقت ناشطي وخبراء حقوق الإنسان في العصر الحديث، ما دفعهم للعمل على عقد مؤتمرات أممية، ووطنية، وإقليمية، وقارية، تؤسس لمناهضة ممارسة التعذيب كسلوك غير إنساني، ومنافٍ لطبعيتها، وتعمل على محاربته بنشر ثقافة الحفاظ على حق الإنسان في التمتع بالكرامة الإنسانية في حدها الأدنى. ويتحرك برنامجهم في اتجاهات متعددة بدءا بمناهضته ووصولا إلى حد ملاحقة المعذبين والآمرين به، والمتسترين عليه من مواقعهم المسئولة أو الرسمية. كجزء من محاولة استرداد حق الضحايا، ومحاولات تحجيم كم ممارسته.
وينقسم التعذيب إلى قسمين أساسيين، يندرج تحت كل قسم أساليب مختلفة. فالقسم الأول: التعذيب الجسدي، والقسم الثاني التعذيب النفسي، وكلاهما محرمان في الشرعة الدولية، بدءا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الخامسة، ومرورا بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته السابعة، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب في مادته الخامسة، والاتفاقية الأميركية لحقوق الإنسان في مادته الخامسة، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في مادته الثالثة، والميثاق العربي لحقوق الإنسان في مادته الثالثة عشرة. وانتهاء باتفاقية مناهضة التعذيب -العالمية- آنفة الذكر المشتملة على 32 مادة تبين الأغراض من الاتفاقية وتعالج التعرف على المقصود بالتعذيب، وتنظم الالتزام بعدم ممارسته، والإجراءات القانونية للالتزام بها، والعمل قدما على تطوير العمل من أجل تكريس مناهضة التعذيب، وترسم خطوط تطوير آليات المحسابة والمساءلة لضمان إنصاف الضحايا.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الشرائع السماوية والشريعة الإسلامية بسموها، لا تخلو من أصول تحريم التعذيب والممارسة التي تنتهك كرامة الإنسان، في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وسيرة القادة الصالحين، ولايمكن المزايدة عليها في ذلك من أي جهة كانت.
فالقسم الأول أي التعذيب الجسدي، لايكاد يخفى على أحد من بني البشر، لكونه مدركا في الإجمال، ويهتدى إلى مدلولاته من مفردات المصطلح ذاته. وإن كان يخفى على بعضهم أساليبه والأدوات التي تستعمل لتنفيذه وممارسته؛ (يمكن التعرض لأساليب التعذيب الجسدي في مقال آخر) أما القسم الثاني وهو التعذيب النفسي، فإنه من المبهمات بالنسبة للغالبية الساحقة من الناس، لأنهم لا يدركون ذلك إلا بالتعرض له، أو التعرف عليه من خلال عرض خبراء وناشطين مناهضين للتعذيب. بل إن كثيرا ممن يتعرضون للتعذيب النفسي يفسرونه أحيانا بأنه نصح واهتمام أو رعاية من ممارس التعذيب النفسي وكأنه شفقة بهم ورحمة. إذ إن التهديد بممارسة التعذيب الجسدي هو في حد ذاته تعذيب نفسي، يفسره الكثيرون من الضحايا ممن يتعرضون له بأنه نصح ورعاية واهتمام يقدمه ممارس التعذيب النفسي، لكي يحموا أجسادهم أو أنفسهم من التعذيب الجسدي ويدلوا باعترافات قبل التعرض له.
والتعذيب النفسي يمارس إما على الطرف المستهدف أو على طرف ثالث، وذلك عندما يمارس التعذيب الجسدي أو النفسى أمام عينه، أو في نطاق سمعه عندما يحجب عن رؤية الضحية، التي يمارس عليها التعذيب. أما بتعصيب العينين أو بوضعه خلف حاجز، فيسمع صرخات الألم والخوف والرعب الذي يتعرض له الطرف الواقع تحت ممارسة التعذيب الجسدي، أو بجعله ينظر إلى عملية التعذيب من خلال شاشة أو كاميرا.
إقرأ أيضا لـ "هادي حسن الموسوي"العدد 2474 - الأحد 14 يونيو 2009م الموافق 20 جمادى الآخرة 1430هـ