بقدر ما يبدو البحث عن عَلَم معاصر من أعلام التسامح والسلام يسيراً في ظاهره، يكون الاختيار الصائب للشخصية أو المنظمة أو الهيئة أمراً غير بديهيّ؛ فلا إجماع بين الناس حول هذه الشخصية أو تلك، ولا توافق بشأن دورها وجهودها في الدعوة إلى التسامح والعيش المشترك ونبذ العنف والتكفير والطائفية المقيتة. وعليه فإن اختيارنا لشخصية المقال محض اجتهاد بعد قراءة متأنية في سيرة الشخصيات ومواقفها وأدوارها في سياقها التاريخي والاجتماعي.
ورغم المخاطر، تستمرّ الرحلة الممتعة، رحلة البحث عمّن ثبت دورهم في الدعوة إلى السلام وساهم بمختلف الأشكال في تحصين العقل، لدى الشباب والناشئة كما الكهول، من مزالق الفتن والتكفير والدعوات الشاذة والغريبة تحت مسميّات دينيّة متسربلة بآراء فردية غريبة.
وقد استوقفني، خلال هذه الإجازة بتونس الخضراء، تونس الزيتونة، صدور العدد الثاني من مجلة «الزيتونيّ المجدّد»، وهي مجلة فصليّة تعنى بتعميق الفكر الإسلامي الزيتوني المعاصر وتسعى إلى تطويره ونشر ثقافته بين العلماء والمتعلمين وعموم الناس من المسلمين وغيرهم. ومن خلال الاطلاع على هذا العدد الثاني وبالعودة إلى العدد الأول أيضاً، تأكّد لدينا، بما لا يدع مجالاً للشك، الدور العظيم الذي تنهض به هذه الفصلية العلمية المحكّمة في تنقية الفكر الإسلامي المعاصر من الأدران التي رانت عليه.
تسعى هذه المجلة إلى تحقيق جملة من الأهداف السامية، من ذلك التعريف بالفكر الزيتوني وبالمنهج المقاصدي العاشوري (نسبة إلى العلامة محمد الطاهر بن عاشور) وتطويره، فضلاً عن تفجير القدرات الفكرية الاجتهادية تحت شعار الاجتهاد طريق الوحدة والتقليد طريق التفسيخ والطائفية. كما ترمي مجلة «الزيتوني المجدّد» إلى ترقية الحوار بين المثقفين في المجتمعات العربية والإسلامية، إضافةً إلى تحقيق مصالحة حقيقية بين مثقفي الأمة وميراثها الحضاري الإسلامي، وذلك بإخراج الحوارات الإسلامية من دائرة المراء والتضليل. وتهدف هذه المجلّة أيضاً إلى التعريف بكنوز الثقافة الإسلامية المغمورة بفعل المشاحنات السياسية من أجل تحريك سواكن الطاقات الفكرية المبدعة، ونقلها من القوة إلى الفعلية والإنجاز.
وتصدر مجلة «الزيتوني المجدّد» عن خيريّة العلوم الشرعيّة بالتعاون مع الأكاديميّة الزيتونيّة المفتوحة، وتخضع إلى مراقبة وتحكيم علميّ صارم لمواضيعها من قِبَلِ مجلس علمي استشاريّ يرأسه عميد جامعة الزيتونة بتونس هشام قريسة.
وقد جاء العدد الثاني من المجلة ثرياً بالمواضيع الحارقة والخطيرة والجريئة؛ ففي الافتتاحية لم يتوان رئيس التحرير العالم والشيخ شكيب بن بديرة الطبلبيّ في الدفاع عن ضرورة إحياء الاجتهاد باعتباره طريقاً إلى الوحدة والتنمية، وقد حمّل تيارات الإسلام السياسي بمختلف تنويعاتها مسئولية ما يحدث اليوم من تطاحن لكونها غلّبت أولوية التحرير السياسي والإصلاح الاجتماعي على ما عداها، «ولم تنتبه إلى أنّ شيئاً ما في الأفق سيقلب جميع الأولويات رأساً على عقب، وهو توظيف التراث الإسلاميّ الرافض للمراجعة في أبشع شكل من أشكال التضليل الدينيّ، ومن ثَمَّ تدمير القدرات الفاعلة للأمّة (الشباب) في فتنة هوجاء مستعرّة وقودها الناس وكتب التراث»، على حدّ عبارته.
ودعا إلى حركة مراجعة شاملة لروايات الفتن وأخبار آخر الزمان التي توظفها خاصة بعض التيارات الجهادية لتجنيد شباب الأمة لفائدة هذا المعسكر أو ذاك، وأكّد رئيس التحرير في افتتاحيّته على أنّ المراجعة الكبرى المطلوبة، هي تلك التي تستهدف تطهير السيرة النبوية ممّا علق بها من أوهام ومدسوسات سمح بها طول العهد بين تدوينها وزمان وقوعها.
وسعى رئيس المجلس الإسلامي المغربي بأسكندنافيا الداعية والباحث الشيخ مصطفى الشنضيض، إلى الحفر عميقاً في العقل التكفيري لمحاولة فهم الآليّات التي تحرّكه؛ فقد عقد الباحث صلة بين الملحد من جهة والتكفيري من جهة أخرى، إذْ هما يلتقيان في صفة «الطغيان»، فالتكفيري بحكمه على الناس بالنار أو بالكفر يكون قد جعل نفسه شريكاً مع الله في ربوبيّته، فالله وحده يعلم ما تنتهي إليه عقيدة الإنسان التي يموت عليها، لأنه كامل العلم بقلوب الناس، بينما التكفيري لا يملك ذلك العلم الكامل لكنه يُكَفِّر ويحكم على الناس ويحاول انتزاع دور الإله في الحكم على العباد. ويصل بذلك الباحث إلى أنّ نقطة الانحراف الفكري الأولى لدى المتشدّد أنّه يقيس نفسه وعقله القاصر على الله وعلمه المطلق. واعتبر أنّ التعميم الخاطئ من أخطر ما تورّط فيه التكفيريون، وأن من أخطر ما ابتُلِيَت به الأمة القول بعموم حديث قتال الناس رغم ثبوت تخصيصه.
ونجد في العدد الثاني من «المجدّد الزيتوني» عرضاً لأعمال الملتقى الثاني لتجديد الفكر الإسلامي: الأهداف والاتجاهات العامّة، وقد تناول هذا الملتقى بالبحث أولويّة التجديد الفكري الإسلامي على الحراك السياسيّ. وأكد شكيب بن بديرة أنه لابدّ من الوعي بأنّ الثورة المعلوماتيّة اليوم، ولاسيما سرعة انتشار المعلومة، لها متطلبات تجديدية غير مسبوقة خصوصاً على المستوى الفقهي، محمّلاً المسئولية لأصحاب المشاريع السياسية العاجلة عندما «يتوهّمون الكفاية في التوريد الفوري السهل لنماذج ومناهج فقهية فاشلة وعقيمة مزوّة جيداً بهالات إعلامية ماكرة، وهو ما يستوجب آليات استنباط فقهي تكون بالحيوية والفاعلية الكافية للاستجابة للتحديات المتجددة يومياً والتي تتنوع من بيئة إلى أخرى».
هكذا تسعى مجلة «الزيتونيّ المجدّد» إلى إحياء الاجتهاد وإعادة الاعتبار لمقاصد الشريعة، بالتأكيد على أهمية المنهج المقاصدي في تصحيح الرؤية التشريعية، باعتبار أنّ التشريع بحسب مقاصد الشريعة هو تعويض لحكم شرعيّ غير ملائم بحكم شرعيّ آخر ملائم. وبذلك تكون جهود المجلة واضحة في الدعوة إلى نبذ العنف والتقاتل بدعوى الجهاد، دعوة الحق التي أريد بها باطل.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4721 - الإثنين 10 أغسطس 2015م الموافق 25 شوال 1436هـ