هل بدأت رياح التغيير تهب على المنطقة العربية- الإسلامية؟ كل المؤشرات تدل على وجود متغيرات سياسية وميدانية تدفع باتجاه التموضع في إطار استراتيجية دولية وإقليمية تجنح نحو الاستقرار. هذه التحولات التي أخذت تظهر على مسرح «الشرق الأوسط» كان من الصعب تخيلها لو لم تحصل تلك المفاجأة الكبرى في الولايات المتحدة. فالهزيمة النكراء التي أصابت «تيار المحافظين الجدد» وجهت رسالة أميركية واضحة للدول العربية والمسلمة أكدت على مسألتين: وقف الهجوم التقويضي والاعتذار عن ما مضى والبدء في تصحيح العلاقات على قاعدة «الاحترام المتبادل».
خطاب الرئيس باراك أوباما الذي ألقاه من على منبر جامعة القاهرة كان تاريخيا في توقيته (عشية ذكرى هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967) ومهما في إظهار الجانب المتسامح والحضاري والإنساني للدين الإسلامي.
الجانب السياسي كان الأضعف. ولكن خطاب أوباما يجب قراءة فقراته من الجانب الآخر الذي يمكن أن يعطي إشارات واضحة تؤكد أن مشروع «تيار المحافظين الجدد» فشل وأن الإدارة الأميركية الجديدة ستوقف عجلته ولن تستكمل ما تبقى منه. وهذه النقاط تعتبر مهمة في خطاب تاريخي يؤشر على وجود انعطافة سياسية معقولة ومتواضعة في النهج الأميركي، وهي على بساطتها ستحدث تحولات جذرية في بنية العلاقات الثنائية والمشتركة.
هناك الكثير من النقاط العقائدية المهمة يمكن التوقف عندها في خطاب أوباما التاريخي، إلا أن الأهم ليس في شكلها وأنما في جوهرها. فالجوهري يستبطن السياسي ومنه يمكن إعادة قراءة المقاصد. أوباما حين تحدث عن تسامح الدين الإسلامي ركز على مسألة احترام الإسلام للديانات الأخرى ونجاحه في ضمان حقوق الأقليات التي تعيش في وسطه وطالب الدول العربية الاستمرار في هذا النهج التاريخي المتسامح وأعطى مثالا على ذلك الأقباط في مصر والموارنة في لبنان. هذه المسألة كانت مهمة في دلالاتها السياسية لأنها انعطفت على نقطة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى وهي إشارته إلى رفضه لمشروع الفتنه السنية- الشيعية والاقتتال المذهبي والطائفي.
الإشارة إلى رفض إدارة أميركا الجديدة مخططات «تيار المحافظين الجدد» بإشعال الاقتتال الأهلي والفتن المذهبية بهدف إعادة تشكيل خريطة «الشرق الأوسط الجديد» تعتبر نقطة مفصلية في خطاب أوباما السياسي. وهذه المسألة الخطيرة التي لم تثر الانتباه كما يجب تشكل حجر الزاوية في مشروع الولايات المتحدة الجديد. أوباما وعد مداورة في خطابه المنطقة العربية- الإسلامية أنه سيقلع عن ذاك المخطط الجهنمي التقويضي وسيعمل على احتواء آثار وتداعيات ذاك المشروع الخطير وتفرعاته التي استشرت ونمت وتطورت وكادت أن تصل إلى مبتغاها لو نجح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية.
أهم تغيير ذكره أوباما في خطابه كانت هذه المسألة التي جاءت في سياق تاريخي أيديولوجي ولكنها تعتبر الأبرز في الجانب السياسي. وعد أوباما بالابتعاد عن مشروع التقويض المذهبي- الطائفي الذي تأسست عليه استراتيجية «تيار المحافظين الجدد» جاء مداورة ولكنه أعطى إشارة إلى عزم واشنطن بوقف الاستمرار في هذه السياسة الشيطانية والجهنمية والشريرة.
على أساس «وعد أوباما» يمكن القول بأن المنطقة مقبلة على رياح التغيير وباتجاه معاكس لمشروع التقويض الذي أطلقته إدارة الثنائي جورج بوش- ديك تشيني ضد العرب والمسلمين بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. والإشارة التي نجح أوباما في تمريرها في ثنايا خطابه التاريخي بدأت تعطي مفعولها على أكثر من صعيد ويرجح أن تتطور نحو المزيد من الإيجابية في حال استطاعت القيادة السياسية الإيرانية التقاط المؤشرات التي تشكل انعطافة منهجية في ذهنية القيادة الأميركية والتعديلات التي تريد إدارة واشنطن إدخالها على أسلوب التعامل. فالتصورات الجديدة لن تكون على أساس طائفة ضد أو مع طائفة وإنما على قاعدة المصالح أي دولة ضد أو مع دولة.
انتقال الرؤية الأميركية من التعامل مع المنطقة العربية- الإسلامية بوصفها مجموعة طوائف ومذاهب وأقوام وقبائل متقاتلة ومتحاربة إلى طور متقدم في الرؤية يرجح أن يساهم الأمر في تعديل زوايا الصورة حين تبدأ الإدارة الجديدة في التعامل مع المنطقة بوصفها مجموعة دول لها مصالح وتحتاج إلى فترة هدوء وتنمية. واختيار أوباما في خطابه لتلك الآية الكريمة التي تركز على «التعارف» بين الشعوب والأقوام والقبائل كان موفقا لأنه أراد الجزم بوجود إرادة أميركية جديدة تمتلك عزيمة وشجاعة وهي تستعد لوقف مشروع التقويض والتقسيم والتفكيك الذي خطط له «تيار المحافظين الجدد» وباشر في تنفيذه خطوة خطوة وحلقة بعد حلقة من أفغانستان والعراق ولبنان إلى الصومال والسودان واليمن.
اختيار أوباما لآية «التعارف» كان أهم نقطة سياسية في خطابه التاريخي. فهو أراد أن يرسل إشارة دينية تعطي الثقة لصحة التوجهات الجديدة وهو يتعهد من دون خوف على أن نهج الإدارة الجديد تغير فعلا عن الثنائي بوش- تشيني ولكنه يطالب في المقابل دول المنطقة العربية- الإسلامية أن تساعد الولايات المتحدة على إنجاز هذه المهمة التاريخية انطلاقا من قاعدة «الاحترام المتبادل».
«التعارف» بين الشعوب لا التناحر بين الطوائف والمذاهب والقبائل والأقوام هو النهج الجديد الذي بدأ في الولايات المتحدة حين أسفرت معركة الرئاسة عن سقوط كبير لأيديولوجية «المحافظين الجديد» ومشروعها الطائفي- المذهبي لتقويض «الشرق الأوسط» وإعادة تشكيل دوله بذريعة مطاردة الإرهاب.
رياح التغيير بدأت كما يمكن ملاحظة الأمر من خلال مراقبة الصورة ومتابعة تحولاتها الانتخابية في أكثر من مكان وزاوية. قد تكون هناك مبالغة في قراءة الجوانب السياسية الخفية التي وردت في خطاب أوباما التاريخي. ولكن ما حصل من تبدلات انطلاقا من لبنان وربما في إيران - في حال قرر الرئيس المنتخب ثانية رؤية ما يجري وإعادة هيكلة خطابه السياسي - يؤشر بوضوح إلى وجود منعطفات مهمة ليست بعيدة عن وعد أوباما وتعهداته بشأن الحوار الشفاف ومفاوضات «وجها لوجه».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2474 - الأحد 14 يونيو 2009م الموافق 20 جمادى الآخرة 1430هـ