مرة أخرى، تغطي شاشات التلفزة والمحطات المسموعة، وصفحات الإعلام المكتوبة، أخبار الانتهاكات الصهيونية لحقوق الفلسطينيين، وتعمد إلحاق الأذى الجسدي بالمقاومين الفلسطينيين، فيتعرض الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات في سجنه للتعذيب من قبل جنود الاحتلال، ولتتصاعد موجة العنف لاحقاً، فيقدم المستوطنون الصهاينة الرعاع على اغتيال عائلة فلسطينية، من ضمنها طفل رضيع لم يتجاوز عمره ثمانية عشر شهراً.
لا يهدف هذا الحديث إلى الاستطراد في تفصيل جرائم الاحتلال، فقد أمست هذه الجرائم واضحة وجلية للقاصي والداني، وإنما وضع التصعيد «الإسرائيلي» في إطار ما يجري من انهيارات كبرى في النظام العربي، وأيضاً العجز الفلسطيني عن صياغة استراتيجية كفاحية، تجمع عليها مختلف أطراف المقاومة، لمواجهة العربدة الصهيونية، وتحرير فلسطين من الاحتلال.
تأكد للعرب، والفلسطينيين بشكل خاص، منذ وقت طويل، أن المشروع الصهيوني، هو مشروع حرب، وأن الحديث عن المفاوضات بين قادة الكيان الغاصب، والسلطة الفلسطينية في رام الله، ليس إلّا من قبيل التكتيك، واستهلاك الوقت، وفرض مزيد من التنازلات، على القيادة الفلسطينية.
فالذي يضع في حساباته الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، في حرب يونيو/ حزيران العام 1967، لا يقوم ببناء المستوطنات، التي قضمت جزءاً كبيراً، من الأراضي التي يفترض أن تؤدي المفاوضات بين الفلسطينيين والصهاينة، في نهاية المطاف إلى الانسحاب منها. وبالمثل لا يغدو هناك مبرر، لبناء الجدران العازلة في القلب من مناطق الضفة الغربية.
لقد أسس الكيان الغاصب في فلسطين، بموجب وعد بلفور ليؤدي وظيفة محددة، هي منع العرب من التقدم وتحقيق التنمية المستقلة، وليحول دون قيام وحدة عربية، بأي شكل من الأشكال. وكان أداء هذا الدور هو مبرر وجوده. وقد أدى هذه الوظيفة بامتياز من خلال عدوانه المستمر على الأمة العربية. ووقف الغرب إلى جانبه في اعتداءاته المستمرة على الأمة، ووفر له احتياجاته، لمواصلة عدوانه، وليكون ذلك عاملاً رئيسياً، في إعاقة الفلسطينيين عن تحقيق التحرر والاستقلال.
لقد مارست القيادات الصهيونية المتعاقبة سياسة الابتزاز، وقضم المزيد من الأراضي المحتلة، ومضاعفة بناء المستوطنات، والاستمرار في تمديد مفاوضات الحل النهائي، إلى ما لا نهاية، وهو أمر لم يبق للفلسطينيين شيء يتفاوضون عليه. والنتيجة أن جميع المبادرات الدولية والعربية، التي طرحت للتوصل إلى حل سياسي، لتحرير الأرض، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فوق أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة باءت بالفشل، وذهبت أدراج الرياح.
أمام هذا العجز، وفي ظل غياب برنامج عملي لتحرير فلسطين، وضعت السلطة الفلسطينية جل حساباتها في المجتمع الدولي، وتحديداً على مصدر الدعم للكيان الصهيوني، المصدر الذي استخدم عشرات حق النقض في مجلس الأمن الدولي، ليحول دون إدانة أي جريمة من الجرائم التي ارتكبها الصهاينة بحق العرب والفلسطينيين، وكانت في ذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار. والنتيجة أن الإدارات الأميركية المختلفة التي جرى التعويل عليها، مارست ذات السلوك الصهيوني في التسويف والابتزاز، ونقل هذا الملف من إدارة إلى أخرى من غير جدوى.
عولت السلطة الفلسطينية أيضاً على اكتساب تأييد دولي للقضية الفلسطينية، وعزل الكيان الصهيوني سياسياً. وقد حققت نجاحات كبيرة في هذا السياق، وبخاصة بالدول الأوروبية، لكن التعاطف العالمي مع قضية فلسطين، هو على رغم أهميته مختلف تماماً عن قضية وبرنامج التحرير.
نسوق ذلك بناء على التجربة التاريخية، والفلسطينية بالذات. ففي منتصف السبعينيات أي ما قبل الأربعين عاماً، تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من اكتساب اعتراف دولي بوحدانية تمثيلها للفلسطينيين، يفوق بكثير عدد الدول التي اعترفت بـ «إسرائيل»، وأقامت معها علاقات دبلوماسية. وتعتبر منظمة التحرير، حركة التحرر الوطنية الوحيدة في العالم التي تفوقت على المحتل في عدد الدول المعترفة بها.
ما تحتاج إليه القضية الفلسطينية هو برنامج كفاحي واضح المعالم، تلتقي عنده جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، ولن يكون مقبولاً الحديث عن هذا البرنامج، من غير ربطه بوحدة الضفة والقطاع.
وإذا كان هذا البرنامج، يمثل ضرورة ملحة، قبل ما عرف بالربيع العربي، فإنه الآن يعتبر ضرورة قصوى لتحرير فلسطين. لقد كان للمقاومة الفلسطينية عمقها الاستراتيجي الممتد إلى جميع بلدان الطوق العربية. أما وأن مشروع الربيع العربي قد أنهى به الأمر، ليصبح وسيلة لاستكمال خريطة الشرق الأوسط الجديد، المعبر عنها بحسب «عتاولة» اليمين المحافظ بالفوضى الخلاقة، التي يبرز من رحمها تفتيت البلدان العربية، فإن هذا العمق الاستراتيجي غدا هجيناً ومشوهاً.
إن على الفلسطينيين أن يعتمدوا، بالدرجة الأولى على قدراتهم الذاتية. وقد أثبتت تجربة الاعتداءات الصهيونية المتكررة على قطاع غزة، والتي انتهت بفشل ذريع، أن بإمكان المقاومة الفلسطينية إفشال مخططات العدو، وإلحاق الهزيمة بقواته.
ستكون فلسطين، إذا ما جرت صياغة هذا البرنامج الكفاحي، وتوحد جميعهم حول منظمة تحرير فلسطينية مقاومة جسر عبور نحو المستقبل العربي، وسيكون له الفضل الأول في هزيمة مشروع التفتيت، وإنهاء حالة الانهيار التي يمر بها عدد من الأقطار العربية. فلا تكون فلسطين قضية العرب المركزية فحسب، بل جسر عبور من اليأس إلى الأمل، وكما كان قدر فلسطين دائماً أن تمنح المشروعية للنظام العربي، فإن قدرها الآن أن تعيد لهذا النظام حضوره أمام الموج العاصف، وعمليات التخريب والحرائق المشتعلة التي تحاصرنا من كل مكان.
عسى أن يبرز وعي فلسطيني جديد يجعل من القضية الفلسطينية مشروع إنقاذ للأمة، ودحر لمشاريع التفتيت.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4719 - السبت 08 أغسطس 2015م الموافق 23 شوال 1436هـ