يدير العالم منذ وقت طويل أشخاص يستخدمون السلطة بالطريقة التي تؤمن مصالحهم على أفضل وجه. وكثيراً ما ننسى نحن أن ليس لهم الحق في ذلك.
والأسوأ أن المحكومين يقعون غالباً في شرك الافتراض بأن مصلحة المجتمع تكمن في إدامة الوضع الحالي وحتى تقويته. وهكذا تحدث المفارقة الشائعة، حيث أصحاب المصالح المتعارضة يسعون لتحقيق الأهداف الاجتماعية ذاتها.
وليس التاريخ هو وحده الذي يكتبه الفاتح أو المجموعة المسيطرة، كما بيّن المؤرخ والعالم الأميركي توماس كون وآخرون، يمكن أن يؤخروا طويلاً قبول أفكار جديدة، حتى لو كانت الأدلة الدامغة تشير إلى ضرورة التغيير. وقد أظهر التاريخ الحديث أن المصالح المكتسبة يمكن أن تحدد سلوك أفراد مرموقين، حتى في المهن العلمية. لكن كون العلماء غير معصومين عن الخطأ لا يقلل بالضرورة من صحة العلم.
تعاني نظريات التنمية وتطبيقاتها من هذه الأعراض أكثر من معظم التخصصات. ويبين الباحث البريطاني روبرت تشامبرز في كتابه الأخير الرائع «أي حقيقة هي الأهمّ»؟ كيف يستطيع باحثون غرباء أن يسلطوا عقلياتهم وأفكارهم المسبقة على تصميم برامج إنمائية، أكثر كثيراً مما يستطيعه الأشخاص المحليون الذين يعملون معهم ومن أجلهم.
الحقيقة اليوم هي تغير المناخ. ليس الفقر المدقع (وهو أحد أسباب تغير المناخ لكنه بالطبع ليس مدمراً كالثراء الفاحش). وليس الانقراض المتسارع للأنواع الحية. وليس التحمض الخطير للمحيطات. وليس انهيار مصائد الأسماك. وليس المخاطر التي تهدد الأمن الغذائي والمائي، خصوصاً في الدول الفقيرة. يجب أن يتركز كل الانتباه الآن على تغير المناخ.
الاختلاف الموجود بين تصورات وتطلعات وعقليات جماهير التنمية هو بالطبع في صلب التعفن النظامي الذي يقلق الكثير من مجتمعاتنا اليوم. الشركات تنتج مزيداً من السلع وتبيعها إلى مستهلكين لا يحتاجون إليها في الواقع. وتخلق الحكومات المهيمنة سياسات لتحسين أوضاع الفقراء فتنتهي بإفادة الأغنياء. ويستنبط الأكاديميون المزيد من النظريات وطرق الأبحاث المبهمة، مبتعدين أكثر فأكثر عن حقائق حياة أولئك الذين يسعون إلى فهم أوضاعهم ودعمهم. وقد يكون القطاع التطوعي أكثر تفهماً لحقيقة الناس الذين يعمل معهم، لكنه غالباً لا يقرّ بحقيقة ضعفه في أمور الشفافية والمساءلة وحشد الموارد التي يحتاجها لإحداث تأثير كبير.
هكذا، يواصل من هم في السلطة البقاء في السلطة واتخاذ القرارات «لخير الجميع».
لكن أي نوع من الخير؟ ولمن؟ أي حقيقة هي الأهمّ؟ حقيقة العشرة في المئة من الناس الذين يخولهم وضعهم الاقتصادي الحصول على جميع منافع المشاركة في اقتصاد معولم، أم حقيقة الستين في المئة الذين لا يعرفون حتى ما هو هذا الاقتصاد؟ حقيقة الواحد في المئة الذين يقتنون السيارات ويريدون الطرق السريعة، أم الثمانين في المئة الذين لا يطمحون إلى أكثر من دراجة ويحتاجون إلى مسارات للدراجات؟ حقيقة القلة الذين لا يقدرون على شراء مياه معدنية معبأة، أم الكثرة الذين يريدون مياهاً نظيفة من الصنبور؟ حقيقة أصحاب العمل أم العمال؟ حقيقة قاطعي أشجار الغابات أم القبائل؟ حقيقة الذين يأكلون جيداً أم الجياع؟ حقيقة الصيادين أم الطرائد؟
حتى الآن، كان الأول هو الرابح دائماً: صاحب العمل، قاطع الأشجار، من يأكل جيداً، الصياد... ووجهة نظر الرابح هي دائماً التي تدفع عمليات اتخاذ القرار في المجتمع. لهذا السبب نستثمر في مشاريع كبيرة ومركزية وذات تكنولوجيا عالية، بدلاً من بناء مؤسسات مجتمعية يمكنها ايجاد حلول إنسانية صغيرة ومحلية للمشاكل اليومية. ولهذا السبب تبنينا طرقاً للحوكمة استبدلت نظاماً إقطاعياً بنظام آخر. ولهذا السبب، عند تعريف المشكلة التي علينا معالجتها، نستبعد المشاكل الأخرى التي تهدد الغالبية أيضاً.
ليس من الصعب أن نرى أن الموضع الذي يقف فيه المرء في هذا النقاش يعتمد بشكل كبير على الموضع الذي يجلس فيه. لكن نظراً إلى التفكك السريع لمجتمعنا، وتدمير بيئتنا، وزوال نظم قيمنا، بدأ المقعد يسخن. والذين يُصادون بدأوا يقاتلون دفاعاً عن النفس. وقريباً سوف يصبحون هم الصيادين. الأيام معدودة للذين يملكون، قبل أن يضطروا إلى مشاركة أملاكهم مع من لا يملكون، سواء طوعاً أو بالقوة.
إقرأ أيضا لـ "أشوك خوسلا"العدد 4719 - السبت 08 أغسطس 2015م الموافق 23 شوال 1436هـ