خَرَجَ عبدالصَّبور من «شقته» في السابعة صباحاً كما هو الحال كل يوم. مشى نحو سيارته القديمة، التي عادة ما يركنها بعيداً، كَون الأزقة المطوِّقة لمكان سكنه لا تسمح بإيقاف حتى دراجة نارية. تفاجأ بأن سيارته لا تعمل. وبعد فحص يدوي أدرك أن ذات المشكلة السابقة قد عادت إليها. إنها مكلفة جداً. أراد أن يُصلحها فتذكر أن أوان الراتب لم يَحِن بعد. اتصل بصديق له طالباً أن يُقرضه مئتي دينار على وجه السرعة.
اعتذر الصديق له معللاً ذلك بأنه بالكاد يستطيع أن يشتري ما دوّنه الطبيب لابنته من أدوية، فضلاً عن التزامات أخرى. بعدها بادر متصلاً بأحد الزملاء علَّه يجد عنده المبلغ المطلوب. تحدث معه على استحياء وبمقدمات عِدَّة إلى أن وصل معه إلى حقيقة المبتغى:أريد منك خدمة. وما هي؟ خمسون ديناراً على أن أرجعها لك حين أستلم راتبي. حسناً ولكن أقصى ما لدي هو ستون ديناراً فقط.
قَبِلَ بما هو موجود وأخذ الستين ديناراً، ثم اتصل بالبنك ليطلب منهم إيقاف استقطاعهم الشهري من راتبه نظراً لظروفه الاقتصادية الصعبة. اعتذر مسئولوا البنك منه بلطف على اعتبار أنه اتصل في الوقت الضائع، حيث لم يتبقَ من الوقت لمثل هذا الإجراء بسبب قرب صرف الرواتب. احتسب أمره إلى الله واتجه صوب الميكانيكي كي يُصلح سيارته، وهو لا يعلم كيف سيتعامل مع هذا الالتزام الجديد.
بعد يومين، وحين استلم كشف راتبه جلس يُوزِّع حصص المسئوليات والمهام: فواتير الكهرباء والماء. الهاتف. قسط بنكي وقسط التأمين. الإيجار/ قسط البيت. شئون منزلية. تذكر أن وصفة الدواء الشهرية لأبيه لن يكون لها فرصة الشراء على اعتبار أن مبلغها يجب أن يذهب لزميله الذي اقترض منه ستون ديناراً، بالإضافة إلى بقية المبلغ المستحق للميكانيكي! يا لحيرة الأمر. كل شيء صار مُلِحّاً، ولا يحتمل التأجيل كون افتتاح المدارس قد اقترب ولم يتبق سوى أسبوعين.
تبخَّرت بقية الأحلام أكثر مما سبق: وُعُودٌ للأولاد بالسفر، وشراء هاتف للبنت الثالثة. لم يعد بالإمكان فعل شيء من ذلك. قد يكون الذهاب إلى البحر المزدحم أو للحديقة التي بجانب المنزل، وإصلاح الهاتف القديم المتهشّم هو ما تبقى من خيار.
في المنطقة التي يسكن فيها عبدالصَّبور يوجد بيتٌ كبير يملكه رجل يُدعى عبدالغني، تُسوِّره حيطان عالية، لا يوجد في جدارها كُوَّة واحدة سوى بوابة حديدية ضخمة، مليئة بالمزاليج القوية. عندما يُفتَح الباب في أوقات غير محدَّدة تُشاهَد بداخل الفناء غابة من الأبواب المتفرعة ومجموعة متنوعة من السيارات الفارهة، التي لا تتحرك دائماً كونها لا تُطلَب إلاَّ على المزاج.
فالسيارات السوداء الكلاسيكية ذات الأربعة أبواب مجعولة للزيارات الرسمية. أما السيارات الرياضية ذات البابيْن، فهي فقط لأيام نهاية الأسبوع، أو حين يريد أبناء الذوات الذهاب للاستعراض. بينما السيارات الأقل فهي لسائق البيت الذي يذهب للتبضع وأخذ الحاجيات. في حين هناك سيارات أخرى لا يبدو أنها تحركت منذ شهر كونها أصبحت من فاضل الاستخدام.
فاصل الحياة بين ما يملك هؤلاء وبين ما يجدونه في سفرهم خلال الصيف يكاد يكون ضائعاً. فكل ما يريدونه متوفر في بيوتهم التي لا تنتهي. فإن تحدثتَ عن الأجواء الباردة في الصيف، فلا تعتقد أنها غير كذلك في بيتهم، فنظام التبريد لديهم يتدفق منه الهواء حتى أدنى زاوية من الحُجَر. صالات وملاهي رياضية، وملاعب ضخمة وأفران ٌ للطبخ وأيدٍ تعمل لهم كل ما يطلبونه من خدمات.
ليس لديهم هَمَّ الفواتير الشهرية ولا القروض البنكية ولا حساب دقيق لحاجات البيت الشهرية ولا مشكلة في الادخار ولا كيف سيدرس الأولاد وهل سينالون بعثة من الدولة أم لا، وما هي الخطة الموضوعة لهم ولمكافأتهم حين يتفوقون أو في أعياد ميلادهم! هنا كل شيء مختلف. إنه عالم آخر يغيب عنه الإحساس بالحاجة أو التحدي في طلب الأشياء البسيطة أو الكبيرة.
حين يمرضون فلا داعي للذهاب إلى المستشفيات الصغيرة أو العامة، فهناك أطباء وممرضون يسهرون عليهم صوب أسرّتهم. وحين يتعذر الأمر يأتون هم إليهم من قريب أو من خلف الحدود والبحار حتى. وحين تتطلب الحالة السفر في غضون ساعات فلن يمنعهم شيء. إن اختاروا الأمصار القريبة فهي لهم، وإن اختاروا الأمصار البعيدة فتقول هي لهم هِيْتَ لكم.
هذان العالمان قد يبدوان افتراضيين لكنهما واقعان نعيشهما كل حين. التفاوت أمر موجود في صميم حياة البشر، وبالتالي فهو في أصله طبيعي. لكن ما ليس طبيعياً هو أن يُصبح ذلك التفاوت خارج المألوف. أن يصبح البون بين هذا العالم الفقير وذاك العالَم الثري بحجم السنوات الضوئية. حينها يتحوّل ذلك التفاوت إلى كارثة كونه يُكرِّس لحالة إفقار وثراء لا مشروعية فيها.
حين يكون التفاوت مؤدياً إلى أن يكون الفسطاطان هما الموت والحياة، والمشاقاة والسعادة فمعنى هذا أن حالة من السرقة الكُلِّيّة قد تمت في حياتنا. فالسرقة ليست كما هي مُدوّنة في قانون العقوبات فقط، بل أيضاً هناك سرقات من نوع آخر يكون ظاهرها طبيعياً لكن جوهرها هو سطو واستيلاء. هذا أمر يجب أن نتفكَّر فيه إذا كان عنوان الإنسانية يشملنا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4716 - الأربعاء 05 أغسطس 2015م الموافق 20 شوال 1436هـ
دائما التركيز على المادة
بسبب الاعلام ويافطات البنوك والمجمعات وغيرهم امسح واربح والفائز المليوني نركز في حياتنا على الماديات فقط لا ننظر ان عندنا ابناء أصحاء ومتفوقين وزوجة صالحة ومتفهمة وصحة بدن بل نركز على احلام اليقظه وننظر للاغنياء كيف يعيشون مرفهين في قصورهم ونحن نكد ونتعب للقمة العيش ولكن لأ ننظر بالموجود في يدنا من صحة وأبناء زينة حياة الدنيا ودائما نعيش في تعاسة ونكد لانا لا نملك الملايين والملايين فقط هي مصدر السعادة اي المادة فقط
المقالات الراقية
اخوي محمد انت مميز جدا وموضوعك اليوم ايضا مميز اسلوبك الراقي في صف الكلمات اتعلم منها و اعتبرها زاد لي في احاديثي مع الناس و الاصدقاء.
كل التقدير
أسلوب قصصي أدبي رائع
استاذ محمد لا يمكن ان يخلوا مقالك من الارقام والرقميات
انا اتابع مقالاتك وحدة وحدة وهذه هي الشفرة التي تميزك عن الآخرين ،شكرا على هذه المقالة التي تبين البون الشاسع بين افراد المجتمع والتي تتقارب به الحياة في المجتمع لكن البعض لا يتورع عن ان يسلك الطريق الزلق والغير مستقيم بينما الآخر ملتزم بما امر الله ويصبر ويحتسب ويقنع بما رزقه الله ولا يآخذ لقمة الغير ويقول هذه ارزاق ويروميها على الخالق العدل الذي لايمكن ان يفتح فاه الا وان يشبعه ، انت تسرق قوتي وقوت غيري وترميها على الباري سبحانة وتعالى ،سبحانك اللهم الصابر على عبادك .
وحش المقالات
انتقائك للمواضيع مميز مع سبك اكثر تميز واسلوب راق وجذاب
ويلوموننا في التمسك بجريدة الوسط يا استاذ محمد
بعد قراءة الوسط وقرائة مقالاتكم ( آخذ فرة على باقي ما هو موجود من صحف ) تلوع جبدنا مما يكتبون ، استاذا محمد ليس مجاملة لا لكم ولا للوسط لو لا انكم متميزون لما قرءنا لكم ولو كانو أولئك الكتاب في تلك الصحف متميزين لذهبنا لهم ولكن الفرق شاسع بين الوسط وسواها واللبيب بالأشارة يفهم .
لست من اصحاب الملايين
لست من اصحاب الملايين و انا انتظر بيت يضمني انا و زوجي و ابنائي بدل الغرفة التي نعيش فيها في بيت ابي و لكن هذا لا يعطيني الحق ان ادعي ان الأغنياء سراق