لا يختلف الخبراء والمختصون الجادون في مجال التعليم الجامعي حول نتائج تقاريرهم وبحوثهم بشأن الحالة الكارثية التي صارت عليها أغلب مؤسسات هذا التعليم في الدول العربية والريعية الغنائمية، إذ تكشف عن حالة بؤس في أوضاعها وتسييس يصاحبه تراجع فاقع في مخرجاتها التعليمية وإنتاجها المعرفي وتدني مستواها العلمي. الأسباب التي يتناولها الباحثون بالدراسة والتحليل بشأن هذه العلة، كثيرة ومتعددة في تشابكها مع الواقع السياسي والاقتصادي المتردي الذي تمر به مجتمعاتنا المحلية.
أبرز مؤشرات الكارثة وأسبابها يتعلق بعدم استقلالية هذه المؤسسات مادياً وإدارياً وتبعيتها لدولها الاستبدادية الغنائمية التي جعلتها رهينة وأفقدتها ميزتها كمؤسسات اجتماعية وتنموية، لم لا وهي التي تستند في معايير مقوماتها إلى العملية الربحية أو بالخضوع لقرارات وسلطات تلك الدول بما تمارسه من عملية ضبط عبر إفساح المجال واسعاً لتدخل أجهزتها البيروقراطية والأمنية في شئون الجامعات والمعاهد ومراكز الدراسات والبحوث، حيث تتعامل معها كمواقع سياسية وسيادية للدولة وغالباً ما تمنح قيادتها وإدراتها بصورة انتقائية ومزاجية لأفراد يتم اختيارهم حسب معايير وشروط لا تخدم العملية التربوية والتعليمية والإكاديمية في ظل غياب لأي دور تمارسه مؤسسات المجتمع المدني كشريك للنهوض بالمجتمع.
خلاصة الدراسات تركز على حالة الضعف الذي تعاني منه مؤسسات التعليم العالي ولاسيما في كفاءة القيادات الأكاديمية والأسس والمعايير المعتمدة في اختيارهم، حيث تخضع عملية التعيين للمناصب العليا بالجامعات ورئاسة الأقسام وعمداء الكليات ومجالس الأمناء ومديري المراكز البحثية وحتى المكتبات العامة وغيرها، لتدخل المتنفذين من الجهات الرسمية والأمنية وانتقائيتها في التعيين تبعاً لمعادلات وحسابات ترجح عامل الولاء لأنظمة الحكم والمحسوبيات والتوازنات وكوتات الجماعات الدينية «المذهبية والطائفية» والعشائرية والقبلية القرآبية والحزبية حسب درجة الولاء وعلى حساب أصحاب الكفاءات والخبرات والتخصص، وخصوصاً أن بعض التيارات الدينية تمارس ضغوطاً وتدخلات يتمدد من خلالها نفوذها في مفاصل العملية التعليمية وإدارتها بما يحقق لها المغانم والمصالح الشخصية والفئوية والطائفية كلٌ تبع أجندته الخاصة.
ومنه أصبحت هذه المؤسسات وبحكم التضييق الذي تتعرض إليه الحريات الإكاديمية وسط بيئة متصحرة ديمقراطياً ومقيدة للحريات السياسية والمدنية وغياب فاضح لممارسة حرية الرأي والتعبير، فضلاً عن التمييز والتهمش للأكاديميين وأعضاء هيئة التدريس ومسئولي الأقسام والكليات وغيرهم على أسس إثنية وطائفية وفئوية تبعدهم عن المشاركة في اتخاذ القرارات وتشكيل السياسات التعليمية والتربوية فتتعطل إثرها القدرات البحثية والإبداعية، وهذا بالطبع يساهم في تسطيح العملية التعليمية الأكاديمية، وهبوط مستوى إنتاجها البحثي والمعرفي وانعكاس ذلك سلباً على حرية البحث العلمي.
في حقيقة الأمر تمثل قوى التسلط والقهر المتوحشة في المجتمعات العربية ذات الاقتصاديات الريعية، المرجعية التي تستند إليها أغلب الجامعات الحكومية والخاصة، وبالتالي فهي سبباً رئيسياً في تردي أوضاعها، وخصوصاً مع استشراء ظاهرة النهب والفساد المؤسسي والمحسوبية والمزاجية وتعميق الفوارق الطبقية بإطراد مع ارتفاع منسوب الممارسات التمييزية والإقصائية التي تمارسها الأنظمة على أسس طائفية ومذهبية وفئوية في إطار واقع سياسي يكرس اللاعدالة وسياسات التمييز والإقصاء والعقاب لكل ما هو مختلف وغير موال بل قل ومعارض سياسياً، ففي نهاية المطاف كل الجعجعة الإعلامية حول اعتماد معايير الكفاءة والجودة والإتقان والقدرة والمهارات في إدارة العملية الإكاديمية ما هو إلا فقاعة تتلاشى في الهواء حيث الواقع يشئ بنقيض ذلك من الناحية العملية.
ثمة عوامل أخرى يشير إليها المختصون والباحثون في تشخيصهم لكارثة العبث بمؤسسات التعليم العالي العربية، يتمثل بعضها في غياب الموضوعية والشفافية وانخفاض مخصصات التعليم والتدريب والبحث العلمي، إضافة إلى تدني إنتاجها المعرفي –أي الجامعات- بسبب افتقادها القدرة على تطبيق المعايير الدولية التي تعكس تطور تلك المؤسسات والمستوى النوعي لإنتاجها المعرفي، مثل النشر في دوريات علمية موثوقة ومعتمدة دولياً، وعدم تقدير أهمية الفكر والإبداع الإكاديمي في تطوير المجتمعات من خلال العملية البحثية ولاسيما مع عزل الجامعات عن حاضنة مجتمعاتها المحلية، فضلاً عن تدني التحصيل المعرفي وضعف القدرات التحليلية والابتكارية بسبب استمرارية اعتماد النهج التلقيني والاجتراري في التعليم، والأهم عدم ربط التعليم العالي بمفهوم التنمية المستدامة وبما يلبي احتياجات الأسواق والأفراد تماماً كما فعلت بعض دول شرق آسيا وأميركا اللاتينية، إلى جانب التأثير السلبي للمستويات المتدنية في جودة التعليم الأساسي والثانوي ومخرجاته في بعض الدول.
إلى هنا نخلص، بأن هيمنة الحكومات والمتنفذين على مؤسسات التعليم العالي والعبث بها وإفساد مناخها الأكاديمي يساهم في إعادة إنتاج إيديولوجية الديكتاتوريات المتسلطة التي جعلت من التعليم تعليماً هامشياً في المجتمعات العربية، والأخيرة تدفع أثماناً باهضة لسياسات دولها التي تستخدم هذا التعليم كوسيلة للرشوة الاجتماعية.
لاشك أن غياب الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية يشكل قوة طاردة منفرة للطاقات والكفاءات الأكاديمية وهدراً لقدراتها العلمية والمهنية التي دفعت بخيرة العقول والخبرات للهجرة والإحباط وللإحالة المبكرة إلى التقاعد وتزجية الوقت بالتسكع في الأسواق والثرثرة في المقاهي، خصوصاً مع تفنن أنظمة التسلط في أساليبها الانتقامية مع شعوبها المعارضة لسياساتها وفسادها في استجلاب خبرات أجنبية ومستشارين لا حاجة لهم ويشكلون فائضاً غير منتجاً وعبئاً يضع أكلافاً على الاقتصاديات المحلية مقابل الهدر المستمر للطاقات الوطنية التي تمثل رأس المال الاجتماعي والثروة للأوطان. حقاً ياله من وضع غريب وبائس!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4715 - الثلثاء 04 أغسطس 2015م الموافق 19 شوال 1436هـ